وفاء الحكيم ودعاء طعيمة وشريهان شاهين وسامية عاطف فى مشهد من مسرحية ليل الجنوب داخل قاعة صغيرة، تتابعت الأحداث بسرعة، ورسمت من خلال الصوت والأداء والحركة مأساة أربع نساء، تحكمت في مصائرهن عادات وتقاليد مجتمع ذكوري، رسم قسوته وسلطته ليصنع مع القدر حاضرهن ومستقبلهن ونهايتهن المأساوية، تماما كما كان يحدث في المآسي اليونانية القديمة، التي تدفع البشر في اتجاه محتوم، يستحيل النجاة منه، مسرحية ناس النهر التي يعرضها حاليا مسرح الغد حيث تعتبر مع مسرحيتي ناس النهر والنوبة دوت كوم ثلاثية فنية لمخرجها ناصر عبدالمنعم، مناطق عديدة تجمع المسرحيات الثلاث شكلا ومضمونا، منها التركيز والتكثيف علي المضامين والأبعاد التراثية والإنسانية التي صنعت تقاليد ومصير سكان جنوب مصر، مسرحية ناس النهر تناولت قضية النوبة من خلال الأسطورة والعلاقة العميقة التي صنعت الترابط بين أهل النوبة ونهر النيل، ثم النوبة دوت كوم عالج مع مؤلفها الناقد الراحل حازم شحاته أحد ضحايا محرقة مسرح بني سويف عام 2005 مأساة أهل النوبة التي بدأت بعد أن اندفعت مياه النيل من جسم السد العالي لتغمر 40 قرية نوبية، ومن خلال ثلاث روايات كتبهم أدريس علي تم صياغة العرض، في بناء مسرحي يعكس مرآة وقسوة التهجير والشعور بالغربة، ومن خلال البطل، وهو شاب نوبي، واجه بشاعة الاعتقال بعد أن حاول كشف المأساة الإنسانية التي عاش فصولها للمسئولين، ثم من خلال جهاز كمبيوتر يروي للجمهور تفاصيل إنسانية لشخصيات وأحداث كان شاهدا علي تفاصيلها. عرض ليل الجنوب يتماس في بعض مناطقه شكلا ومضمونا مع النوبة دوت كوم، الإنسانية، مع خلاف مهم صنعه الفنان الشاب شاذلي فرح، وهو أحد العاملين والمهمومين بالثقافة الجماهيرية، التي شكلت ملامح وعيه الفني، وامتزجت مع أرتباطه الإنساني والتصاقه بالحياة في صعيد مصر، لتصنع نص ليل الجنوب، الذي يفوز عنه بالجائزة الثانية عن مسابقة للتأليف المسرحي نظمها المركز القومي للمسرح، في ليل الجنوب يروي البطل الذي هاجر للخارج، وعاش الانشطار بين ثقافتين وعالمين مختلفين، ورغم امتزاجه مع الحياة المعاصرة بما تضم من رفاهية وحياة سهلة، لكنه لا يستطيع أن ينسي الجنوب الذي مازال يصنع أحلامه ووعيه ورغبته الدائمة في العودة للجذور، ويبدأ الحدث المسرحي وهو يجلس أمام جهازالكمبيوتر الخاص به، ويسترجع شريط الذكريات، ومعه يتكشف أمام المشاهدين بعض ملامح ليل الجنوب، الجديد الذي يقدمه المؤلف شاذلي فرح تلك المفردات الدقيقة لحياة البسطاء في الجنوب، المعاناة الإنسانية أمام سطوة تقاليد القصاص وفرمانات إعدام الأبرياء، بحث الرجال عن لقمة عيش في الغربة بعيدا عن الوطن وما تصنعه من مآس اجتماعية، والدجل والشعوذة ومزجهما بتقاليد قاسية وصارمة، تحفر فوق تضاريس الحياة وبالذات بالنسبة للنساء، مساحات من القهر والمرارة، حياة النسوة الأربعة التي يرويها الجنوبي، والخصوصية التي صنعها المؤلف لأحداثه وشخوصه، إلي جانب هذا الالتزام والإتقان في أداء اللهجة الجنوبية يحسب للمؤلف، وفي المقابل يطرح النص سؤالا حول أسباب هذا التكثيف لمساحة الشر والألم والقهر والعذاب الذي يصنع الإطار العام للنص بأحداثه وشخوصه وعلاقاته، بالإضافة لتكرار السرد فيما يتعلق ببناء كل شخصية من النسوة الأربع ،خلال الدقائق الأولي للعرض يتعرف المشاهد علي مأساة ومصير كل شخصية من النسوة الأربع، ثم يعود النص ليقدم لمشاهديه بقية الحكاية التي تم الإيحاء بها قبل ذلك، كما أن شخصية النوبي تبدو مقحمة علي النص، دون توظيف عميق يضيف للأحداث والدلالات، باستثناء ما تؤكده بالنسبة لزمن الحدث المسرحي الذي يعود لفترة بناء السد العالي. المخرج ناصر عبدالمنعم قام بتوظيف أدواته لصناعة عرض علي درجة كبيرة من الدقة والانضباط وجمال الشكل والمضمون، حيث تحول فراغ منطقة العرض إلي بناء تشكيلي يجمع بين الوظيفة الجمالية والفنية، ويوحي بدلالات رمزية تعكس الجذور التي تجمع البشر والمكان والعادات داخل نسيج متكامل، كما وظف الضوء والحركة والجمل الموسيقية الموحية لبناء عالم ينقل مشاهديه خلال زمن العرض الذي يقترب من الستين دقيقة إلي عمق وسحر وقسوة ليل الجنوب، أما الممثلون فقد قدموا تجربة فنية ثرية شكلا ومضمونا، يحيي أحمد في دور الراوي الجنوبي، والنسوة الأربع بطلات الحكاية وفاء الحكيم ودعاء طعيمة وشريهان شاهين وسامية عاطف، ومعهم نجوم العرض محمد دياب ومعتز السويفي ومحمد نصر ومحمود الزيات ونائل علي، قدموا جميعا فرجة مسرحية تؤكد أن المسرح رغم كل ما يحيط به من مشاكل إدارية وفنية، مازال يملك بفنانيه والمخلصين له القدرة علي المغامرة وإعادة قراءة الواقع وصناعة التنوير الجاد بدون تزييف.