ففي المرة الأولي التي أثيرت فيها كان الرفض هو الرد القاطع من قبل الأغلبية.. لم يكن أحد يستسيغ بعد شهور قليلة من الثورة ومازالت فيها دماء الشهداء لم تجف علي أرض الميدان أن يتم التصالح مع رءوس الفساد الذين لم يكتفوا بتجريف ثروات البلاد لحسابهم فقط بل امتد بشكل فاجر لحساب أحفادهم وربما لأحفاد أحفادهم.. كان النهب جنونيا وب »افترا« كما يقول العامة. هكذا جاء رفض التصالح قاطعا في المرة الأولي .. أما في الثانية فكان أقرب لأمر واقع فرضه مرسوم بقانون أصدره المجلس العسكري فجأة وبدون مقدمات وفي توقيت مريب قبل أيام ثلاثة فقط من انعقاد أولي جلسات مجلس الشعب وفتح القانون الباب أمام الدولة للتصالح مع رجال الأعمال الحاصلين علي مساحات من الأراضي وتراخيص مشروعات استثمارية في عهد النظام السابق وبمقتضاه يجوز التصالح مع المستثمر في الجرائم التي ترتكب بصفته أو بشخصه أو التي اشترك في ارتكابها.. ويشترط التصالح أن يرد المستثمر كافة الأموال أو المنقولات أو الأراضي والعقارات محل الجريمة ومايعادل قيمتها السوقية وقت ارتكاب الجريمة إذا استحال ردها العيني.. علي أن يتم تحديد القيمة السوقية بمعرفة لجنة من الخبراء يصدر قرار بتشكيلها من وزير العدل. وبالرغم من رفض البعض لمرسوم القانون ليس فقط لما يحمله من شبهة تواطؤ مع رءوس الفساد وإنما أيضا لأنه يفتح الباب لمزيد من عمليات الفساد في المستقبل.. بل إن بعض الخبراء الاقتصاديين وقتها رأوه بأنه يعطي إشارة سلبية علي مناخ الاستثمار في البلاد علي عكس آخرين تعاملوا مع القانون علي أنه خطوة مهمة تدفع عجلة النمو الاقتصادي وتعمل علي جذب الاستثمار وترسل إشارة طمأنة للعالم حول مناخ الاستثمار في مصر وهو مايغري رءوس الأموال ويشجعها علي التدفق إلي شرايين الاقتصاد المصري مرة أخري لم يتوقف الأمر عند الجدل الاقتصادي بين مؤيد ومعارض بل تخطاه لجدل فقهي بين من يري ضرورة القصاص من ناهبي ثروات البلاد ممن أفسدوا اقتصادها ودمروه وحرموا الأغلبية المطحونة من الشعب ليس فقط من خيرات وطنهم وإنما حرموهم حتي من مجرد حياة آدمية كريمة. علي الجانب الآخر تحمس بعض رجال الدين لمبدأ التصالح وعلي رأسهم الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية والذي أجاز التصالح مع رجال الأعمال مقابل رد ما سرقوه.. مبرر جمعة الذي ساقه وقتها أن استيلاء البعض علي الأراضي بطرق بعضها قانوني وبعضها غير قانوني ورغم أنها تعد إهدارا للمال العام إلا أنها لا ينطبق عليها حد السرقة المشار إليها في الآية فهي ليست من السرقة الفقهية.. إلا أنها بالطبع حرام.. ولكن يجوز التفاوض مع هؤلاء الذين قاموا بهذه الجريمة مقابل رد ما اغتصبوه إلي خزينة الدولة وبالتالي يصل لمستحقيه الأصليين وهو الشعب. البعض إذا تعامل مع التصالح علي أنه صورة من صور التوبة يجوز واعتبروا أن تنازل المفسد عن كل أشكال فساده هي نوع من إبداء حُسن النية وبداية للتوبة والندم والإقلاع عن الفساد رغم تحمس البعض لقانون التصالح ورغم المبررات التي ساقها هؤلاء للإقناع بعدم جدوي القصاص مادام السير في هذا الإتجاه لن يفضي إلي رد الأموال المنهوبة وبالتالي يضيع علي البلاد مئات الملايين وربما مليارات هي في أمس الحاجة إليها خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها منذ قيام الثورة وحتي الآن. حالة الجدل بين مؤيد القصاص ومؤيد التصالح لم تتوقف منذ أثيرت هذه القضية قبل أكثر من عام ونصف حتي الآن.. إلا أن تواتر الحديث الآن حول اتجاه الدكتور محمد سليم العوا مستشار الرئيس للعدالة الانتقالية لدراسة قوانين عدة دول للوصول إلي تشريع مصري يسمح بالمصالحة مع رموز النظام السابق المحبوسين حاليا في ذمة قضايا فساد.. هذا الاتجاه أعاد الجدل مرة أخري بشكل حاد وربما أكثر غضبا من قبل البعض. فبغض النظر عما أحيط من شبهات حول قيام العوا تحديدا لتبني هذا الملف والمعروف أنه محامي أحد المتهمين بالفساد كما كشفت المصادر لجريدة المصري اليوم ونشرته يوم الإثنين قبل الماضي.. بغض النظر عن هذه الشبهات التي تضع علامات استفهام كثيرة وتنال من مصداقية وشفافية وأحد أهم مستشاري الرئيس وتفتح بالتالي باب الشكوك وربما اليأس من أن عهدا جديدا قد بدأ لامجال فيه لاستغلال النفوذ ولا تزاوج المصالح ولا تبادل المنفعة علي حساب الوطن. بغض النظر عن هذه النقطة رغم خطورتها وأهميتها إلا أن الأخطر ماتحمله من مؤشرات سلبية من أن الفساد مهما بلغ من فجره وأن الفاسدين مهما بلغت من جرائمهم فإن أحدا منهم لن ينال عقابه. أعتقد أن هذه هي الرسالة الأخطر التي يحملها لنا قانون التصالح.. رغم كل مايقال عن أهمية رد الأموال المغتصبة ومدي حاجة خزينة البلاد لها إلا أن الشق السياسي هو الأهم.. إذا كنا نرغب حقيقة في فتح صفحة جديدة لامجال فيها للفساد ولا موطن فيها للمفسدين علينا بالقصاص أولا.. أن يصبح هؤلاء عبرة حتي لاتسول لآخرين أنفسهم السير في نفس الطريقة واستباحة ثروات البلاد.. لا أري أي تعارض من أن تصادر ممتلكات هؤلاء بالقانون ويتم محاسبتهم بشكل جدي واسترداد كل ما اغتصبوه من أموال وفوق ذلك يدفعون ثمن جرائمهم من أعمارهم فيقضون سنوات منها في السجون.. في القصاص حياة هكذا علمنا ديننا.. أما التصالح مع المفسدين دون جزاء رادع فهو الهلاك بعينه.. دعونا نشعر أن شيئا ماتغير فيكفينا ما نتلقاه كل يوم من صدمات.