صادف وصولي هذا الأسبوع قرب باريس بالقطار، والمذياع كان يقرأ خبرا طبيا عن منظمة أمريكية متخصصة في الصحة والغذاء، أن اللحوم الحمراء تسبب السرطان، وصادف خروجي من باريس واللافتات الانتخابية بالعد التنازلي نحو أبريل ومايو 2012 وبشعارات وصور وأسماء المرشحين 11عددٌ سينقلب رأسا علي عقب في السابع من مايو المقبل ليصبح 1بدل 11 فيدخل هذا الواحد قصر الإليزيه لمدة خمس سنوات. دخلت باريس وخرجتها والكتل الانتخابية كانت تشقها إلي شقين: اليمين المتطرف واليسار المتطرف، أحدهما سيسمح المسلمين الفرنسيين ولايقل عددهم عن ستة ملايين اللحوم بالحلال، والآخر لايسمح، بمنع الذبح علي الطريقة الإسلامية في فرنسا، وخرجت من باريس وكان الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قد زارالأربعاء مسجد باريس الكبير، معربا عن وقوفه الي جانب المسلمين باللحم الحلال، وإن اقتضي أن يقضم معهم من الشاورما اللبناني أوالكباب الحلبي قضمتين، إن كانت القضمة له بأصوات القاضمين.! يُخشي علي من يذرع شوارع باريس الانتخابية بكعب نعليه جيئة وذهابا، أن يسقط علي وجهه في (الكعبنة) الأوروبية هذه الأيام وهو يمشي بين طرقاتها.. ليس بسبب كعبه العالي مهما ارتقي به أوروبيا واضمحلّ وتلاشي في حضارتها، وإنما لحفرة كانت له ولعرقه بالمرصاد .. أمضيت يومي السابع متجولا بين عواصم منطقة اليورو، وأختتمها الآن بعاصمة الحضارات والرومانس والشعر والأدب (باريس)، استجابة لبطاقة دعوة وصلتني قبل مغادرة دبي من مدير المكتب التجاري الكوري الصديق (ش.أ)، يحرضني بشدة علي حضور حفل سيمفونية تجمع الكوريتين في باريس.! وكان حفلا موسيقيا أقامه رجالٌ من كوريا الجنوبية، ليعزف فيه رجالٌ من كوريا الشمالية، أي: المنظمون كوريون جنوبيون والعازفون كوريون شماليون.! وقدماي المنهكتان أوصلتاني أخيرا علي بوابة ذلك الحفل، فدخلته سندبادا إماراتيا مستطلعا متسائلا: "أللحضارة حوارٌ تلغي الأعراق والأديان، وتدمج الإنسان بالإنسان؟" دخلنا الحفل، وعيون الكوريين مهما صغر حجمها كانت لنا برحابة صدر شرقي وتواضع كوري، دخلته ومعي الزميلة الآنسة لمياء الفرنسية المسلمة من أصل جزائري، وكعبنتها علي رأسها، والتي كادت أن تسقطها مرات عدة في الحفرات، كلما مشت في طرقات باريس وهي محتفظة بتلك القطعة من القماش الأبيض فوق الرأس (الحجاب) .. كما كانت كعبنتي ذقني بلحيته الإماراتية الخفيفة البيضاء بعناد البقاء فوق الذقن.! كعبنتان كنا نمشي بهما معا في الطرقات والمتروات والاتوبيسات والقطارات والمحطات، ونري العالم يقف صفّ الريب والصمت لنا، إلا إذا لمحت (لمياء) ولو عن بُعد متحجبة أخري تحاورها ولو بالصمت الناطق عن الهموم المشتركة، او يلوح لي ملتح آخر هو الآخر الصامت بين الصامتين الشامتين بحوار الطرشان، فكنا نمشي مستسلمين قُُدما، كلما حاورتنا العيون وصمتت الألسن.! ما أسهل شوارع باريس وطرقاتها، كلها تؤدي إلي قصر الإليزيه، وما أصعب أرصفتها، وكلها تنتهي علي الطريق إلي اليمين المتطرف واليسار المتطرف، وكلمتي (اليمين واليسارالمتطرف)، ما أسهلما نطقا وأصعبهما فهما، خاصة لمن أرادهما طُعمة إستهلاكية للقلم في رحلة الأسبوع.؟ وجدت بوستراتكم الانتخابية بفرنسا تضع وبعناد، اللحوم والحيوانات في رأس القائمة، والمذبوحة منها بالذات لصيقة بالمسلمين الفرنسيين، وكأن المسلمين مهما عاصروكم عصر الفضاء، لاتشغلهم غير اللحوم والحيوانات.! كنت أمشي في شوارع باريس ودون قطعة لحم في يدي، أقارن أجسام الفرنسيين المسلمين، بالفرنسيين الأصليين (إن صح التعبير)، أقارنها تلك الأجسام ببعضها مقارنات تقديرية للشكل والوزن والطول والعرض .. فوجدتها متساوية لأن الإنسان عادة متساوي الشكل والحجم بأخيه الإنسان. بينما الحيوانات بعضها يزن أطنانا ويزن البعض الآخر مثاقيل وأرطالا، والحيوان يقتات بأي شيئ يخطر ببالك عدا الحجر، فالإنسان يجب أن يقتات ببعض الأشياء التي تخطر ببالك عدا الحجر، لكنهما الإنسان والحيوان وإن اعتادا علي أكل اللحوم لا يأكلان لحم أصنافهما، حتي الوحش المفترس فوق رأس ضحيته ذئبا كان أو ضبعا، مهما أذاب الإرهاق إرادته، قد ينام علي فريسته، يحملق فيه حتي يتأكد أنه سقط صريعا، لكن الذئب لا يأكل الذئب ولا الضباع ضباعا .. كما الغراب لاينبش رأس الغراب ولا الكلاب كلابا.!