لا شكّ في أن بين الذئب والإنسان قرابة من القِدم إذ هما دائما التقاطع وحتّى التشابه. لقد كان الهنود الحمر في أمريكا الشماليّة يقتسمون الصّيد ومكان الصّيد والطريدة مع الذئب. في تلك الفترة لم يكن حديث عن عداوة تذكر بين الكائنين اللاحمين. فما هي إلا عداوة بدأت، ثمّ بلغت أشدّها عندما استقرّ الإنسان في مكانه الواحد ودجّن ما يمكن للذئب أن يصطاده مما اضطرّه إلى السرقة من زريبة الإنسان، هذا الذي صدّق وهم امتلاك كلّ شيء برّيّ. إنّها قرابة تؤكّدها الآثار العالميّة ومنها العربيّة دون شكّ فيها تكلم الذئب بلغة الإنسان ( انظر كتاب أسد الغابة وذكر من كان يكلّم الذئب حال أهيان بن أوس الأسلمي)، هذا إضافة إلى أن الإنسان قد حاول التحلّي بسلوك الذئبويّة بل لعلّه من أكثر الحيوانات تأثيرا عليه. خذ مثلا يضرب عن الذئب في الانتباه والمخاتلة والافتراس ( إلخ...) وقد تبدو كلها وسائل أثبتت صلاحيّتها للنجاعة الاجتماعية كقولنا للذي اشتهر بخبثه ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب كتاب ( الكامل في التاريخ لابن الأثير). كأنّك تحتاج مخاتلة الذئب تلك ( للرعاة) وانتباهه كي تكون، وأن تفترس كما يفترس الفرصة المتاحة. هل لهذه الأسباب تزاحمت الذئاب في الأشرطة السينمائيّة؟. إننا نحاول في هذه المادّة أن نفهم تكاثر ظاهرة الاستذآب في الأفلام السينمائيّة في الحقبة الأخيرة. أفلام لا نكاد نحصيها لكثرتها ولالتقائها حول مسألة ضيق المسافة التي تفصل الذئب عن الإنسان في المجتمع الحديث بل وانعدام تلك المسافة في أحيان كثيرة. الصّورة تكاد تجد صنوها في كل المخيلات الإنسانية، البدر مع ظل الذئب الذي يعوي في الأنحاء، ومن منّا لا يحمل هذه الصورة؟. هي صورة يلتقي فيها الرّعب مع الجمال ومع الشهوة أحيانا. المستذئب le loup-garouيعني ولا شك الإنسان المتوحّش، رغم أن فكرة الإنسان في نظرية التطوّر الداروينيّة لم تكن لتلتقي يوما سوى مع القردة العالية. إنها صورة لم ترض سوى أن تجتمع بالقرد على أن يكون عاليا لكن كأن للسينما اليوم الجرأة على أن تقول ما هو أبعد. إنك ترى الإنسان في الإدارة يتحول إلى ذئب إثر عضة من هذا الأخير أو حتى دونها، الوولفمان wolfman الجامع بين الخير والشرّ، المحتاج للطبع الذئبيّ حتى يثبت نفسه في السياق العامّ مهما اختلف الحال (فيلم wolfman للمخرج الأمريكي جوي جونستون 2010). الذئب يؤخذ في هذه الأفلام على أنه مرض نفسي وعقليّ يحوّل الإنسان إلى آكل لحوم نيّئة ضاربة بذلك عرض الحائط كل هذه القرون التي جاءت بعد اكتشاف النار والحضارة والحس العالي. ذئب لا يقتل سوى بخنجر الفضة الذي سيطعنه في النهاية على مستوى القلب. هو نوع من اللعنة التي تصيب الكائن المستعدّ لتقبّل تلك اللعنة حتى وإن عضّه ذئب على سبيل الصّدفة. من أوائل الأفلام التي خاضت هذا الالتقاء هو الفيلم الأمريكي الكندي للمخرج هنري ماكري المستذئب the werewolf 1913 المنطلق من أسطورة هنديّة مفادها أن هنديّة تدعى فاطومة Watuma قد خرجت من قبر موتها على هيئة ذئبة لتنتقم من قاتلي حبيبها. انطلاقة سينمائيّة قويّة كما يشير بعض ناقدي السينما كيف لا وتاريخ هذه الأفلام قد بدأ بمستذئبة أنثى. بعد هذا الفيلم الذي يعتبر مفتتح سينما الذئاب تتالت الأفلام الذئبويّة إن صحّت العبارة لتخف أحيانا وتتكاثر أحيانا أخرى وفق الحقبة التاريخية والأحداث التي تميّزها. ها هنا تكمن فرضيّتنا التي نصوغها على الصيغة التساؤليّة الآتية: هل من علاقة بين الحروب وانتاج الصور الدموية التي تصوغها لنا الحروب وبين الاستذآب الذي يصوغه لنا فن السينما؟. سنرى. بعد الفيلم الأوّل سنة 1913 The Werewolf of London تتالت ثلاث أفلام تتحدّث عن الإنسان الذئبيّ وذلك إلى حدود فيلم وحش لندرة للمخرج ستوارت ولكر Stuart Wolker لكن مع الشائبة التي أصابت العالم إبّان الحرب العالميّة الثّانية تكاثرت تلك لأفلام ابتداء من أربعينيات القرن الماضي، ونستطيع أن نحصي ما يزيد عن عشرة أفلام في ما يقلّ عن عشرة أعوام تصبّ كلها في التماهي الإنسانيّ الذئبيّ. الغريب أن أغلبيّة هذه الأفلام أمريكيّة لمخرجي تلك الحقبة مثل جورج فاغنر ( wolf man 1941)، وروي ويليام نايل عن فلمه الذي جمع فيه بين المستذئب و فرانكايشتاين سنة 1943 أو الجمع بين مصّاص الدماء الشهير دراكولا والذئب الإنسانيّ في فيلم منزل دراكولا سنة 1945 ( نهاية الحرب) للمخرج الأمريكي دائما آرل كونتون Erle C. Kenton الذي كان قد أنجز قبل هذا الفيلم بسنة فيلما آخر جمع فيه بين فرانكايشتاين والذئب الإنسانيّ في شريط عنوانه منزل فرانكايشتاين هذه المرّة سنة 1944. ما للذئاب والمخرجين الأمريكيين؟ سؤال نطرحه على سبيل الطرح لا غير. إننا لا نكاد نحصي الذئاب التي ملأت شاشات السينما منذ الحرب العالميّة الأولى، هي تتكاثر وهي أمريكيّة في المرتبة الأولى وفرنسيّة لأنّ أصل المستذئب إنّما هو فرنسا. يكفي أن تذكر الخرافات التي شاعت في القرن الوسيط الفرنسيّ والتي تتالت إلى حدود القرن السّابع عشر حين ظهرت قصّة الأطفال ذات الرّداء الأحمر والتي سنلاحظ فيها في بساطة هي أعمق ما يكون تماهي الذئب مع الإنسان عندما افترس وحشنا المخيف الجدّة لينام في فراشها مرتديا ملابسها وغطاء رأسها ومقلّدا صوتها، هذا بعد أن قلد صوت الطفلة التي في طريقها إلى الجدّة ببعض الأكل. الذئب في تلك الحكاية رمز للدهاء وللخطر المحدّق بالفتاة في المجتمع الذي لا يزال محافظا، فما طريق ذات الرّداء الأحمر سوى طريق النضوج وما الذئب سوى الذكر المهدّد لعذريتها الملفوفة بوصيّة الأمّ منذ أوّل الحكاية. كأنّنا نجزم أن السينما كانت أكثر فطنة من غيرها من الفنون لما يصيب الإنسان من ذئب نفسيّ، لذلك تكاثرت مع الحرب العالميّة الثّانية وإثرها أين أثبت ذاك وحشيّته في أكثر من مرّة، قد تكون لذاك السبب فقط أن جنسيّة سينما المستذئبين قد تنوّعت بعد ذلك فمن مكسيكيّة (le fooyeur de la pleine lune هدّام تمام القمر للمخرج جيلبرتو مارتينيز سولاريس) إلى إيطاليّة فإنكليزيّة فيابانيّة ( ندبة الذئب، Mark of the wolf سنة 1937) إلخ... هي ما يقارب الخمسين فيلما عن المستذئب والمستذئبين منذ نهاية الحرب العالميّة الثّانية إلى نهاية الحرب الباردة. في ثمانينيات القرن الماضي قلّت تلك الأفلام، وأصبحت أفلاماً تتحدّث عن الأب الذئب هل هي محاسبة الماضي؟- قد يكون ، كفانا أن نذكر فيلم أميّ مستذئبة للمخرج الأمريكي ميشال فيسشا Michael fischa سنة 1989 واستعادة فيلم Werewolf الفيلم الأب لسينما الذئاب من لدن المخرج الأمريكي مرّة أخرى - دافيد هامّينغس David Hammings سنة 1987. تتعالى أصوات الذئاب في بلاتوات السينما طيلة التسعينيات فهي عديدة ومتعدّدة ومختلفة الجنسيّة، هي أكثر دموية وعمقا، ترتبط بتمام القمر وبالليل وبالأسطورة نهاية، هي ذاهبة ناحية الشهوانيّة القصوى والقاسية. الجريمة المشتهاة. العناوين هي أيضا أكثر عمقا من عين الذئب للأمريكي جافّ ليروي Je Leroy (1999 ) إلى فيلم تمام القمر للمخرج ايريك راد Eric Red (1996 ) أو تمام الخسوف للمخرج الأمريكي أنطوني هيكوكس Antony Hickox سنة 1993، مرّة أخرى لا نستطيع إحصاء مثل هذه الأفلام التي يختلط فيها الذئب بالإنسان، ومرّة أخرى تتوجّه فرضيّتنا إلى ربطها بتلك الحقبة التاريخيّة التي سال فيها الدّم الإنسانيّ وعاث فيها ذئب هوبز في أخيه الإنسان. العشريّة الأخيرة هي عشريّة سينما الذئاب بامتياز. فمنذ سنة 2000 سنلحظ أنه في ذات السنة ظهرت أفلام الذئاب الإنسانيّة عدة مرّة، فهي أكثر من عشرة أفلام سنة 2009 وحدها معظمها أمريكيّ كما جرت العادة، الجديد فيها أنّها تؤكّد فرضيتنا بصفة مباشرة ومن العناوين أحيانا. ففيلم مثل حرب الذئاب War Wolves للمخرج الأمركي طبعا - مكائيل وورث Michael Worth وغيره سيؤكّد أن جوّا عامّا وراء تكوّن تلك الأفلام، هي الحرب التي تطفو فيها الذئاب من صدور الإنسان. وهل من وحش أكثر ذئبويّة من ذاك الذي يطلع علينا إبّان الحروب؟ هي ذئاب وإن لبست جسد الإنسان فهي لا تكفّ عن عداوته، وهي ذئاب يحتاجها الإنسان حتى يتمكن من العيش والصّمود مثل الفيلم الذي يتحدّث عن كاتب مستذئب ( ويا للعجب) يحمل عنوان الذئب Wolf (1994 ) للمخرج مايك نيكولس Micke Nichols الكاتب الصحافي العجوز ويل راندال الذي احتاج طاقة الذئب كي يبقي على عمله ككاتب وكي يتغلّب على الدّماء الجارية في عروق كاتب شاب منافس. مستذئب هذا الفيلم لم يتخلّ عن قيمه الإنسانيّة فقد انتهى الفيلم بانتصاره على ذئب نفسه بينما انهزم الكاتب الشاب أمام ذئبويّته. توجّه هذه الأفلام كاميراتها إلى نفسيّة الإنسان حيث يسكن ذئب ذو عواء. هذه الذئبويّة التي تنطلق راكضة في العالم زمن الحروب حيث تصبح المنطق الحاكم لكل العلاقات. انتبه الفلاسفة إلى ذلك ولعل أشهرهم الانكليزي هوبز ( القرن 17) الذي خصص كتابا لتلك الذئبويّة ومنها عبارته الشهيرة الإنسان ذئب لأخيه الإنسان. وهي فلسفة شكلت أثناء الحروب التي سادت في تلك الحقبة. العرب انتبهوا بدورهم لتلك الذئبويّة ولن نقصد طبعا ذئب امرئ القيس الطيّب الخليع المعيّل الذي لم نر منه في معلّقته سوى العواء، بل هي ذئاب معنويّة شرّانية منها ما ذكر في في كتاب المذاكرة في ألقاب الشعراء للنشابي الإربلي قول الشاعر: إستذأب الناسُ، فمن لم يكنْ في الناسِ ذئباً أكلتهُ الذئاب أو قول الشافعي فيه تجاوزت ذئبويّة الإنسان ذئبويّة الذئب بقوله: وليس الذئبُ يأكل لحمَ ذئبٍ / ويأكلُ بعضُنا بعضاً عِيانا. --------- شاعر من تونس