تحولت الجريدة الرسمية المعنية بإصدار المراسيم والقرارات الحكومية والأحكام القضائية والإعلانات الرسمية، إلي جريدة سرية بامتياز فالتعتيم الحكومي عليها والخلط الموجود لدي الكثيرين بينها وبين الجرائد القومية، كلها عوامل جعلت من "الجريدة الرسمية" لسان حال النظام الحاكم في مصر رسميا في عداد المجهولات، فلا معرفة بمكانها ولا بتاريخ طبعها ولا كيفية الحصول عليها، "الجريدة الرسمية" دخلت إلي عالم الأضواء من جديد مع بعض ممارسات المجلس العسكري الحاكم، ف"العسكري" أصر علي إصدار مراسيم بقوانين في الجريدة الرسمية بليل، فاجأ الجميع بها بأثر رجعي، فمن الإعلان الدستوري في 25 سبتمبر الماضي، إلي إعلان مرسوم بالقانون المنظم للانتخابات الرئاسية ومرسوم بقانون لتعديل قانون الأزهر في 19 يناير الماضي، وهي المراسيم التي لم يعلم عنها الشعب المصري شيئا إلا مصادفة، ف"العسكري" فضل نشر هذه القوانين في الجريدة الرسمية التي لا يعلم أحد باستثناء العاملين فيها- عنها شيئا، وهو ما سبب صدمة لدي الجميع. "آخر ساعة" اتجهت صوب منفذ بيع الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية بكورنيش إمبابة، للحصول علي عدد 19 يناير المفترض صدور قانون الانتخابات الرئاسية وقانون الأزهر فيه، استقبلنا مسئولو منفذ البيع في البداية بكل ترحاب، وعندما قلنا إننا نريد "الجريدة الرسمية" بدأت علامات الارتباك ونظرات الشك تعلو الوجوه ف"الجريدة" لا يشتريها أحد، وكمحاولة لصرفنا سريعا أعطانا أحد العاملين بالمنفذ عدد "الوقائع المصرية"، ودفعنا للانصراف، تحدثنا معه أننا نريد "الجريدة الرسمية" وليس "الوقائع المصرية"، ظهرت معالم الضيق علي العامل وحاول التهرب أكثر من مرة بالانشغال ببعض الأوراق أمامه ربما لكي يعطينا الفرصة للانصراف. عندما صممنا علي الحصول علي عدد 19 يناير، تلكأ العامل وتحجج بأن الأعداد غير موجودة بالمنفذ وبعد أخذ ورد، أخرج العامل من "درج" خلفه مجموعة من أعداد الجريدة الرسمية، وبدأ عملية الاستجواب حول الغرض من العدد، إلا أنه في النهاية قرر التكرم وإعطاءنا عدد 19 يناير من الجريدة الرسمية، بعد أن خرجنا من المنفذ اكتشفنا أن العدد لا يضم أيا من القرارات المهمة المثيرة للجدل، وهنا احترنا هل ما يقال عن وجود القوانين في عدد سابق أم أن ما قيل مجرد شائعة، وبالبحث اكتشفنا أن العدد الذي بين أيدينا هو العدد رقم "3" بتاريخ 19 يناير، الذي لايضم إلا بعض قرارات المجلس العسكري أهمها إنشاء ميدالية 25 يناير. بالبحث عرفنا أن هناك عدد "3" مكرر والذي صدرت فيه قوانين الانتخابات الرئاسية وقانون الأزهر. ذهبنا مرة أخري إلي منفذ المطابع الأميرية للحصول علي عدد "3" مكرر، اكتشفنا مفاجأة جديدة أن أعداد الجريدة الرسمية المكررة لا تباع في منفذ البيع، وأن هناك منفذ بيع آخر يوجد داخل مقر الهيئة نفسها تباع فيه نسخ الأعداد المكررة. هكذا انتهت مغامرة البحث عن الجريدة الرسمية بالفشل، بعد بحث واستقصاء، فكيف يتسني للمواطن العادي أن يحصل علي عدد من "الجريدة" التي تحدد مسار حياته، كونها تضم بين صفحاتها قوانين وقرارات تمس صميم الحياة اليومية. وعند تجوالنا عند منافذ بيع الجرائد وبائعي الصحف في مناطق المهندسين وإمبابة بالجيزة وشبرا ووسط البلد بالقاهرة، اتفق الجميع علي عدم بيعهم للجريدة الرسمية لأنها لا تصل لهم من الأساس!. أقدم الصحف وتعد الجريدة الرسمية امتدادا لجريدة الوقائع المصرية التي تعد أول جريدة مصرية والثانية عربيا التي تصدر باللغة العربية كما صدرت أيضا باللغة التركية، وهي أقدم الصحف العربية التي ماتزال تصدر حتي الآن، ويبلغ عمرها 179عاما، والتي أسسها حاكم مصر القوي - آنذاك- محمد علي في القاهرة عام 1828م ، وصدر العدد الأول في 3 ديسمبر عام 1828م وكانت توزع علي موظفي الدولة وضباط الجيش وطلاب البعثات. وفي العام 1842م قام رفاعة الطهطاوي بتطوير الجريدة من حيث الشكل والمضمون والأسلوب ، لدرجة أثارت حفيظة رجال الدولة وخشيتهم مما كان سببا في نفي رفاعة الطهطاوي إلي السودان ، وجعل رفاعة الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية ، وهو أول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع ، وفي عهده أصبح للجريدة محررون من الكتاب. وفي عهد الخديو سعيد باشا توقفت الصحيفة طوال عهده أي بين عامي 1854 و1863م، في إطار سياسته لتصفية مؤسسات الدولة. ومع بدء الاحتلال البريطاني لمصر ابتداء من سنة 1882م تحولَّت الوقائع المصرية من صحيفة حكومية إلي صحيفة شعبية يومية علي يد الشيخ محمد عبده ، فقد عهد اليه رياض باشا في عام 1880م مهمة إصلاح جريدة الوقائع المصرية، ومكث في هذا العمل نحو ثمانية عشر شهرًا، نجح أثناءها في أن يجعل من الجريدة منبرا للدعوة للإصلاح، والعناية بالتعليم. ظلت الوقائع المصرية الجريدة الرسمية المعبرة عن الحكومة إلي أن أصدر الزعيم جمال عبد الناصر قرارا في عام 1967م بإنشاء الجريدة الرسمية التي تصدر الخميس من كل أسبوع ويجوز في الحالات العاجلة إصدار أعداد غير عادية بالمواد التي تنشر بها القوانين والقرارات الجمهورية بقوانين وقرارات رئيس الجمهورية وقرارات رئيس مجلس الوزراء المفوض بها من رئيس الجمهورية وقرارات لجنة شئون الأحزاب السياسية، وأحكام المحكمة الدستورية العليا وبيانات منح الأوسمة والنياشين. أما الوقائع المصرية فقد أصبحت ملحقا للجريدة الرسمية تصدر يوميا ماعدا أيام الجمع والعطلات الرسمية، واختصت بنشر قرارات رئيس مجلس الوزراء، والقرارات الوزارية، وقرارت المحافظين، وقرارات إشهار الأندية وتشكيل مجالس إدارتها، وملخصات تأسيس الجمعيات بجميع أنواعها، وإعلانات الحجوزات والمناقصات والمزايدات وإعلانات المصالح الحكومية وفقد الشيكات. الجريدة الرسمية اكتسبت سمعة سيئة منذ عهد المخلوع مبارك الذي أتبع سياسة التعتيم علي "الجريدة الرسمية" لإصدار قوانين الظل، قوانين تصدر بليل لايعلم عنها الشعب شيئا تفاجئه بالكثير من القوانين الموجودة منذ أيام وأحيانا أشهر والحجة جاهزة فقد صدرت منذ أيام في الجريدة الرسمية، كما ينص القانون، وهي حجة جاهزة ووسيلة ناجزة لتمرير القوانين. عدم معرفة غالبية الشعب بماهية "الجريدة الرسمية"، دفع المجلس العسكري لإصدار قوانين لا يعلم عنها أحد شيئا، فقد أعطي "العسكري" لقانوني "الانتخابات الرئاسية" و"الأزهر" المشروعية بعد أن أصدرهما في الجريدة الرسمية بتاريخ 19 يناير، وهو ما ينص عليه القانون بأن أي مشروعات قانونية لا تصبح نافذة إلا بعد صدورها في الجريدة الرسمية، وهو أمر يثير الشكوك لأن تاريخ إصدار هذه القوانين جاء قبل انعقاد أولي جلسات مجلس الشعب، صاحب السلطة التشريعية، بثلاثة أيام فقط. موجة غضب صدور القوانين في السر فجر موجة غضب بين القوي السياسية خصوصا بعد صدور قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية، فقد عبر حزب الحرية والعدالة- الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين- عن دهشته صراحة من صدور القانون في هذا التوقيت وقبل انعقاد أولي جلسات مجلس الشعب، فقد قال النائب د. حسين إبراهيم، رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الحرية والعدالة، إن توقيت إصدار قانون انتخابات رئاسة الجمهورية وانتخاب شيخ الأزهر قبل انعقاد المجلس بأربعة أيام لا يلغي دور النواب في تعديل القوانين. ودعا إبراهيم اللجنة الدستورية والتشريعية إلي عقد اجتماع عاجل لكي يمارس النواب حقهم في تعديل القوانين واقتراحها ولكي يتمكنوا من تعديل قانون الانتخابات الرئاسية الذي صدر يوم 19 يناير وقبل انعقاد جلسة مجلس الشعب يوم 23 يناير. فيما أكد النائب المستقل د. عمرو حمزاوي، إن صدور مرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2012 والخاص بانتخاب رئيس الجمهورية بهذه الطريقة السرية ومن خلال تمريره خلال الجريدة الرسمية يخالف الأعراف الديمقراطية، ودعا حمزاوي للنظر في إعادة تحديد توقيتات الانتخابات الرئاسية بحيث ينتهي الدور الذي يمارسه المجلس الأعلي للقوات المسلحة. وطالب النائب السلفي المحامي ممدوح إسماعيل بأن يعلن المجلس العسكري سحب القوانين التي صدرت في الجريدة الرسمية يوم 19 يناير وأن يقوم مجلس الشعب بممارسة مهامه بمناقشة هذه القوانين قبل صدورها. في السياق نفسه اعتبر النائب البرلماني د. مصطفي النجار أن القوانين التي صدرت يوم 19 يناير بعدد الجريدة الرسمية ما هي إلا مقترحات مقدمة للبرلمان لا أكثر. وأكد أن جميع القوانين التي أصدرها المجلس العسكري يجب أن ينظر فيها البرلمان باعتباره الممثل المنتخب للشعب، وأن أي التفاف علي إرادة الشعب من خلال نشر قوانين في السر كما حدث مع قانوني الرئاسة والأزهر، سيتم مواجهته بحزم. من جانبه أكد المستشار إبراهيم درويش، الفقيه الدستوري، أن نظام مبارك لم يسقط فمازالت البلاد تدار بنفس أسلوب رجال مبارك، فالسرية في إصدار القانون أمر غير مريح وقد يؤدي إلي نتائج غير مرغوب فيها، فالقانون كان ولابد أن يعرض للنقاش المجتمعي بين مختلف الأحزاب والقوي السياسية، لا أن يصدر في الظلام هكذا، خصوصا وأن المجلس العسكري ما يزال محتفظا بالحق في إصدار القوانين لأن سلطة البرلمان التشريعية لم تكتمل بعد. وفجر درويش مفاجأة دستورية قائلا إنه ليس من حق مجلس الشعب ممارسة حقه التشريعي واعتماد هذا الحق إلا في ظل اكتمال البرلمان ووجود مجلس الشوري، مستشهداً بالمادة 37 من الإعلان الدستوري التي تقول إنه لا يجوز لمجلس الشعب ممارسة سلطة تشريعية إلا في وجود مجلس الشوري، الذي يتلقي بدوره تشريعات مجلس الشعب ثم يتم رفعها إلي رئيس الجمهورية، وبالتالي ما فعله المجلس العسكري لا يوجد به شبهة دستورية.