لأزلت أذكر ذلك اليوم البعيد عندما التقيت به أول مرة لأعمل معه محررا بمجلة »الجيل«.. وكان يومها كما كان دائما أحد نجوم الصحافة الكبار، وتلقيت منه أول درس في العمل الصحفي وطريقة كتابة الخبر والتحقيق الصحفي والمقال.. وتأثرت به كثيرا وأهداني كل كتاب جديد صدر له بإهداء جميل. وأتذكره بعد هذا المشوار الطويل فصلتي به لم تنقطع حتي بعد أن ترك أخبار اليوم إلي مجلة أكتوبر والأهرام ، وقد عرض عليّ العمل بمجلة »أكتوبر« ولكنني اعتذرت لأنني قد تعودت علي مناخ أخبار اليوم الصحفي. وعندما سمعت خبر رحيله عن دنيانا مر بي شريط الذكريات بسرعة البرق، وتذكرت هذا الكاتب العملاق في تواضعه، وسرعة بديهته، وذكائه الحاد، وشخصيته الودودة التي تشعرك عندما تلتقي به لأول مرة كأنك تعرفه منذ زمن بعيد! ورغم أنني قرأت معظم ما كتبه من مؤلفات، فإني أري أن المقدمة التي كتبها في كتابه (بقايا كل شيء) ترسم الخطوط العريضة لشخصيته ومامربه من أحداث الحياة. هذه الصفحات هي بقايا دموع، وصدي صرخات، ترددت بعيدا في نفس وفي نفوس الآخرين، لها حكم الملح ، ولسع النار، ووخز الإبر، وإلحاح الضمير وبريق الأمل.. إنها خريطة لأعماقي وليست أعماقي ولا كل الأعماق واضحة، فأنا أحاول دون ملل أن أوضح نفسي لنفسي، أن أسلط نفسي علي نفسي، وأن أقلب نفسي بيدي وأتفرج عليها، برفق كأنني أحبها.. وبقسوة كأنني أكرهها. وبين كراهيتي لنفسي وحبي لها، تتساقط الدموع ويتطاير العرق، وتتمزق آهاتي وتضيع.. وأضيع أنا. فأنا لست إلا آهاتي.. وتنسحب كل ألوان الطيف ولايبقي إلا لون دنياي. مرارة الطفولة، وخيرة الشباب، وفزع الرجولة. إن الكاتب الكبير أنيس منصور تاريخ طويل من التجارب، وسعة الأفق، والثقافة العريضة، والاقتراب من السلطة والابتعاد عنها. وقد أنضج كل ذلك كاتبا مرموقا، وشخصية مميزة.. ترك تراثا عريضا يقاوم الزمن ويغالب الفناء .. في النهاية الإنسان في هذه الدنيا كما يقول أعظم رسل الله عليه الصلاة والسلام: كراكب استظل بظل شجرة تم تحركها. رحمه الله أنيس منصور