فقدت الدار الصحفية الكبري.. التي ننتمي إليها.. نجما من نجوم عصرها الذهبي.. عندما كانت حاضنة للمواهب.. وصانعة للنجوم في سماء الصحافة والأدب والشعر والفن.. بما تقدمه من أعمال إبداعية تلقي القبول الجماهيري.. وتثري الأوطان.. وتوحد مشاعر الناس حول قضايا الوطن.. وتقوي الانتماء.. وتحارب الانحراف والفساد.. وتجعل المصري يتباهي بمصريته! لقد فقدنا الزميل فاروق الطويل! والمثير في الموضوع ان فاروق الطويل فارق الحياة.. علي نفس النهج الذي سار عليه طوال حياته.. وهو الانصراف التام إلي العمل في كل المواقع التي شغلها.. دون انتظار لثواب من أصحاب العطاء والتأثير.. ولذلك فقد قضي حياته يقدم العمل دون البحث عن الاضواء.. ولا يتكلم إلا قليلا.. ولا يشتبك مع زملاء العمل بأي لون من ألوان التنافس.. رغم الصراعات التي كانت تدور حول مصالح دنيوية.. كان يراها فاروق الطويل.. فانية! لم يكن فاروق الطويل.. ممن يجيدون تلطيف أمزجة الرؤساء بالكلمات تارة.. وبالافعال تارة أخري.. وكان يكتفي بتقديم ما يكتبه لرئيسه المباشر المرحوم جلال طنطاوي أو لاحد نواب رئيس التحرير.. عبدالسلام داود أو لطفي حسونة أو أحمد زين.. لدرجة انني لم اقابله.. إلا بعد سنوات طويلة من عمله محررا بقسم الأخبار.. وكان قسم الأخبار بجريدة الأخبار هو منصة الاقلاع لنجوم الصحافة لسبب بسيط هو اعتماد مدرسة »أخبار اليوم« علي الخبر.. الذي تميزت به وتفوقت بفضله علي المدارس الصحفية الأخري التي كانت قائمة في أوائل الستينيات.. كان التنافس بين المدارس الصحفية يسعي لاكتساب ثقة القارئ.. مماأدي لتباين الموضوعات والاهتمامات والإخراج والطباعة والتوضيب.. والفكر السياسي الذي تعبر عنه.. فمدرسة روزاليوسف كانت لها ملامحها المميزة التي تعتمد علي الرسم.. وليس علي الصورة الصحفية.. ومدرسة الأهرام تعتمد علي كتاب الرأي والمقال.. ومدرسة »دار الهلال« تعتمد علي المجلات »المصور والاثنين وحواء«.. ومدرسة أخبار اليوم تعتمد علي الخبر.. الساخن.. الطازج! وكان فاروق الطويل.. هو أحد أفراد كتيبة قسم الاخبار الذي يضم.. كوكبة من نجوم الصحافة من بينهم جلال دويدار وصلاح قبضايا ومريم روبين وعفاف يحيي وفاروق الشاذلي وجميل جورج وعلي المغربي ومحمد زعزع وفايز بقطر ووجدي رياضي ومحمد العتر وكريمة عبدالرازق ولواحظ عبدالجواد.. وزين الدين شكري.. وجلال عيسي وهي الأسماء التي تسعفني الذاكرة بالاشارة إليها. ودارت الأيام.. وتشعبت مصادر الأخبار.. مما أدي لتحول قسم الأخبار لمجموعة من الاقسام مثل القسم القضائي وقسم الحوادث وقسم القوي العاملة الذي ضم الزملاء عباس الطرابيلي وحامد زيدان ومجيدة إبراهيم ثم القسم الاقتصادي الذي كان يرأسه الزميل سمير عبدالقادر وقسم التحقيقات الصحفية وقسم الرياضة والشباب وقسم الفن وقسم الفنون العربية وقسم الاتحاد الاشتراكي وقسم مجلس الأمة الذي كان يرأسه الزميل إبراهيم صالح وقسم الابحاث.. إلخ. وفي إطار نشأة الاقسام الاخبارية المتخصصة ولد بعد حرب اليمن قسم »الشئون العسكرية« الذي لمعت به اسماء ماتزال نعتز بها.. مثل فاروق الشاذلي وجمال الغيطاني.. وفاروق الطويل.. ومرت علي هذا المجال الجديد عدد من الأسماء لمحررات لامعات في مقدمتهن مريم روبين التي تابعت حرب التحرير في الجزائر.. وحسن شاه التي اشتركت في معارك بالأسلحة الثقيلة في فلسطين، كن يرتدين الملابس العسكرية.. ويعدن من ميادين القتال بالصور التي تفوق في تأثيرها.. كل ما يمكن ان تقوم بها المنظمات النسائية التي تروج لفكرة مساواة الرجال للنساء والعكس.. اعتذر عن هذه المقدمة التي اجدها ضرورية.. وأنا اكتب عن الزميل الراحل فاروق الطويل.. لانها تكشف الزمن والظروف والأحوال السائدة أيامه.. وانعكاس هذه الأحوال علي قسم الشئون العسكرية علي وجه التحديد.. لقد ظل هذا القسم.. يتابع أبناء الاستعراضات العسكرية وشئون القوات المسلحة.. بمحرر واحد هو الزميل فاروق الشاذلي.. إلي ان اندلعت الحرب في اليمن وباتت العمليات العسكرية التي تقوم بها قواتنا المسلحة هناك.. تحتل الصفحات الأولي ولمعت في هذه الفترة اسماء ثلاثة من المحررين العسكريين في أخبار اليوم هم جمال الغيطاني وفاروق الطويل وعبده مباشر... وتوطدت علاقات كل منهم بقيادة هذه الحرب.. والمعارك التي خاضتها قواتنا المسلحة علي أرض اليمن.. وبدأنا نقرأ عن اسماء الجبال والسهول والوديان والقبائل اليمنية.. ونري صور المدن والقري.. ونقترب.. ربما للمرة الأولي من أساليب الحياة اليومية علي أرض هذه الدولة العربية الشقيقة التي تخوض الحرب من أجل انجاح الثورة. وكانت حرب اليمن هي البداية لظهور الجيل الأول من المحررين العسكريين من ذوي الخبرة والحذقة والدراية.. الذين يؤدون الواجب كما ينبغي أن يكون.. وهو الجيل الذي استعانت به »دار أخبار اليوم« بعد ذلك في تغطية معارك الخامس من يونيو 7691.. ثم معارك حرب الاستنزاف.. في هذه الفترة الدقيقة والحرجة.. كان فاروق الطويل هو المحرر العسكري لآخر ساعة التي تعتمد علي الصور اكثر من اعتمادها علي الكتابة.. وظهر بالتالي جيل جديد من المصورين الصحفيين الذين تخصصوا في تصوير طلقات المدافع.. وانطلاق الصواريخ.. وفي مقدمتهم الزميل مكرم جاد الكريم. كانت التحقيقات الصحفية التي يكتبها فاروق الطويل في آخر ساعة.. ومعها صور مكرم جاد الكريم التي تحتل في الغالب غلاف المجلة.. اشبه بالأناشيد الوطنية التي تحرك الأفئدة.. وتوحد الصف.. وتشحذ الهمم لمواصلة القتال حتي النصر.. ومرت الأيام.. وجاءت حرب أكتوبر المجيدة.. وانفردت »آخر ساعة« بالتحقيقات التي كتبها فاروق الطويل وبالصور التي التقطها مكرم جاد الكريم.. واحتلت صورة رفع العلم المصري فوق أرض سيناء المجيدة غلاف المجلة.. واتصور اليوم.. وانا اكتب هذه السطور.. ان تحقيقات فاروق الطويل.. تعد حتي يومنا هذا هي التسجيل المبهر لاداء الإنسان المصري عندما تحين ساعة الدفاع عن أرض الوطن.. كان فاروق الطويل يؤدي الواجب في صمت.. وبلا ضجة ولا ضوضاء.. وبلا سعي لشهرة يستحقها عن جدارة.. مما ينطبق عليه المثل الشعبي الالماني الذي يقول »ان الباب المخلع هو الذي يصدر صوتا عند الفتح والاغلاق«. أما عن فاروق الطويل الانسان فحدث ولا حرج.. كما يقولون.. في إحدي المرات كنت في مكتب الأستاذ أحمد رشدي صالح رئيس تحرير »آخر ساعة«.. نتحدث في شئون العمل.. عندما جاء فاروق.. يعرض أزمة مالية يمر بها احد الزملاء.. وطلب منحه مكافأة اضافية.. ووافق رشدي صالح.. وقال لفاروق »ابعته لي«.. وإذا بفاروق الطويل يطلب من رئيس التحرير بألا يخبره بانه تحدث معه في هذا الموضوع الذي تحدث فيه معه حول الزميل صاحب المشكلة.. ودار الزمن دورته.. وتحقق السلام.. واستمر فاروق الطويل في العمل في صمت.. يكتب التحقيقات الصحفية والمقالات في موضوعات الساعة.. إلي جانب المهمة التي اسندها إليه الزميل الفنان مصطفي حسين.. وهي إدارة تحرير مجلة »كاريكاتير« التي تصدرها الجمعية المصرية للكاريكاتير بالاشتراك مع الكاتب الساخر الشرقاوي »الجنسية« محمد حلمي.. صاحب القلم اللاذع.. كان فاروق الطويل متعدد الجوانب والمواهب.. مما تاح له الفرصة لشغل جميع فروع الفن الصحفي.. من الخبر إلي التحقيق الصحفي.. وحتي المقال.. دون ان يبحث عن أموال.. ولا ثروة ولا عقارات ولا اطيان.. وعندما زرته منذ سنوات قليلة في منزله لاقدم له واجب العزاء في زوجته الزميلة عائشة مصطفي.. وجدته صامتا.. مستسلما لقضاء الله وقدره.. يحاول الصبر علي الفاجعة وكأنه يستعجل الرحيل. وقد رحل بالفعل!