مصر الآن تعيش في ظروف استثنائية.. حالة من التفاوت الطبقي الذي لم أره في أي مرحلة من مراحل حياتي سوي تلك الأيام.. مستشارون في أجهزة الدولة المختلفة تعدوا سن السبعين مازالوا يتقاضون رواتب فلكية تصل للمائة ألف جنيه شهريا، وشباب حديثو التخرج من الكليات يلهثون في سبيل الحصول علي 005 جنيه فقط كل شهر، وقصور منيفة علي الشواطئ ومدن الأصطياف »بالملايين« ومتزوجون حديثا يسكنون العشوائيات بعد أن ضاقت السبل للعيش في شقة »آدمية« لا تتجاوز مائة متر، وتسير في شوارع القاهرة فتري العجب العجاب.. »عيال« من أبناء طبقة »الذوات« يقودون سيارات فارهة تتعدي الواحدة منها ربع مليون جنيه، ومسنون يحاولون اللحاق ب »ميكروباص« متهالك!! وأقول الإسلام أقر الثروة ولا يحارب الأثرياء بشرط ضمان حد الكفاية لكل مواطن، وهذه مسئولية الدولة!!! المال في الإسلام هو مال الله، ونحن كبشر مستخلفون فيه، والأصل الاقتصادي في المجتمع الاسلامي هو ضمان حد »الكفاية« بمعني المستوي اللائق من المعيشة بحسب ظروف الزمان والمكان، والمواطن يوفره لنفسه بجهده وعرقه وعمله، فإن عجز عن ذلك لسبب خارج عن إرادته كالمرض أو الشيخوخة، انتقلت المسئولية إلي الدولة لتوفر له الحياة الآدمية حتي تمر محنته بسلام، وهذا ماتفعله الدول المتحضرة في أوروبا التي يصفها البعض بالكفر لكنها بالفعل تطبق مبادئ الإسلام بكل دقة، يصل المواطن منهم إلي سن الشيخوخة فيجد العلاج علي أرقي مستوي، وبيوت المسنين الحضارية في انتظار من لا أهل له، والمتعطل عن العمل يصرف إعانة بطالة حتي يجد عملاً، والغني يدفع ضرائب.. والتهرب منها جريمة، والفقير يستفيد منها ومن موارد الدولة، وبالتالي فالتفاوت الطبقي عندهم محدود، ولا نراه أبدا بهذا الشكل الاستفزازي في العالم العربي والإسلامي، بعد أن ضاعت القدوة، وشاهد الناس حكامهم ورؤساءهم يسرقون تلك الموارد ويستأثرون وحدهم بالثروة علي حساب الشعوب المطحونة التي تكد وتتعب في سبيل الحصول علي رغيف عيش، أو حتي تذكرة في »المترو« ولا تندهشوا من هذا الكلام فعندنا عائلات فقيرة لاتدخل اللحوم بيوتها إلا في المواسم والأعياد، ويبالغون في وضع »السكر« علي »الشاي« لأن الفاكهة يرونها فقط داخل أرفف المحلات وعلي العربات.. ومن أين يشترونها وهم يعملون للجنيه الواحد ألف حساب؟!!! وحتي أكون منصفا فليس كل فقير مسئولا عن فقره، وإنما الفقر هنا بسبب فساد الدولة في مصر وعجزها عن تحقيق التوازن الطبقي بين المواطنين والانحياز للاغنياء وحدهم، أعرف بعض الأسر العفيفة التي باعت كل ماتملك، وضحت بالغالي والرخيص في سبيل تعليم أبنائها علي أعلي مستوي، والإنفاق علي الدروس الخصوصية، وبعد أن تخرجوا من بضع سنوات فشلوا في الحصول علي وظائف، ومتي سيتزوجون في ظل هذه الظروف العصيبة، وخصوصا بعد أن بلغ السن والشيخوخة الوالدان ويحتاجان لميزانية أخري للعلاج، وأصبحت هذه العائلات بتصنيفها الحالي »فقيرة« رغم عدم مسئوليتها عن هذه الحالة التي وصلوا إليها، لم يقصر الآباء.. ولا حتي الأبناء، وإنما قصرت الدولة بفساد حكامها وتخبط سياستها (للأسف الشديد)!!! لقد دهش الخليفة عمر بن الخطاب (]) حين رأي شيخا يتكفف الناس في الطريق، فسأله: من أي أهل الكتاب أنت؟.. فقال: يهودي.. فسأله.. وما ألجأك إلي هذا؟.. قال: الجزية والحاجة والسن، فأمر سيدنا عمر بطرح جزيته وإعفائه منها. وأن يعان من الزكاة باعتباره مسكينا، وأرسله إلي خازن بيت المال يقول له: (أنظرت إلي هذا، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم). ضمان حد الكفاية في الإسلام أمر مقدس باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق، والحاكم الذي سينفرد بالثروة هو وأهله هو حاكم غبي، لأن الشعب لن يتركه أبدا يعيش في أمان، بل (من وجهة نظري الشخصية) أن المرحلة القادمة بعد الثورة في مصر أكثر خطورة من ثورة الجياع والمحتاجين، وقد بدأت ملامحها تظهر من الآن بسبب هذه المظاهرات والاحتجاجات الفئوية اليومية، وظهور طبقة »البلطجية« بوضوح، وخصوصا أن الكثير من الشباب المثقفين العاطلين عن العمل انضموا إليهم كنوع من أنواع التذمر والسخط علي سوء أوضاعهم المعيشية، حتي إن الكثير من الأثرياء والقادرين أصبحوا ينسحبون من الأماكن العامة والمطاعم الكبيرة والمتنزهات الغالية خوفا علي حياتهم من هؤلاء الذين دفعتهم ظروفهم وتقصير الدولة أن يعيشوا حد الكفاية.. وأقصد الحياة الكريمة، بل القادم أسوأ بكثير من الآن مالم نفكر في احتواء هؤلاء وانتشالهم من براثن الفقر والجوع والمرض! ومشكلة الفقر في الاقتصاد الرأسمالي أساسها الفقراء، هم السبب لكسلهم وبالتالي قلة الإنتاج، أما في الاقتصاد الاشتراكي فأساسها سوء توزيع خيرات المجتمع، أما في الاقتصاد الإسلامي فهي مشكلة الإنسان نفسه وفساد نظامه سواء من حيث ضعف الإنتاج أو سوء التوزيع، فربط بين العامل المادي والعامل الروحي، جاعلا من كفاية الانتاج وعدالة التوزيع عبادة. وأقول بعد ثورة 52 يناير وبعد كل هذه الثروات المهربة والمنهوبة أن مصر ليست دولة فقيرة علي الإطلاق.. كما كان يدعي الخبراء الاقتصاديون المنافقون إرضاء للسلطة ولكن المشكلة في سوء توزيع الموارد وثروات البلاد، فما معني »مثلا« أن أعالج علي نفقة الدولة بالخارج أثرياء لشد التجاعيد وتصغير الأنوف وتكبير »الشفايف« في حين عندنا مرضي مصابون بالسرطان ولا يجدون علاجا داخل البلاد، أو ذلك التناقض الواضح في هيكل الأجور؟! وأرجو ألا يفهم أحد من كلامي هذا أن الإسلام ضد الثراء والأثرياء، لا.. بدليل أنه كان بين الصحابة أغنياء،، كما أن إسلامنا العظيم يصون الملكية الخاصة ولايسمح بإهانة هؤلاء الأثرياء مادامت الثروة جاءت بطريق مشروع ويسددون الضرائب وحق الله في الزكاة، بل يأمر ديننا بقطع يد السارق إذا امتدت لجيوب هؤلاء الأغنياء. ولكن »المليونير« الذي يعترف به الإسلام هو الذي يستثمر ماله لصالح مجتمعه، وهو الذي ينفقه في مشاريع الخير سواء في التعليم أو الصحة أو التنمية، وهو الذي يلتزم في معيشته بالاعتدال في حياته فلا يكون سفيها بل مطالبا بالرشد ومراعاة أحوال المحيطين حوله فلا يكون مستفزا لهم، ولا يكنز ماله ويحبسه عن التداول والإنتاج، بل باستثماره لصالح »الغلابة« وبسطاء الناس.. فالإسلام مع الغني.. الذكي.. الذي يستطيع أن يكسب ماله بطرق مشروعة، لا عن طريق السلب والنهب والاستيلاء بغير حق، كما رأينا في تحقيقات الكسب غير المشروع طوال الشهور الماضية!!!