قبل أيام قليلة، لم يستطع الرئيس باراك أوباما التزام الصمت كثيراً.. كسر تحفظه لينتقد قرار المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI بإعادة فتح التحقيق في قضية استخدام هيلاري كلينتون لسيرفر شخصي في مراسلات رسمية تخص وزارة الخارجية في الفترة من 2009 إلي 2013.. تحدث الرئيس، الذي يحزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض، بغضب دون أن يذكر اسم جيمس كومي مدير FBI الذي قرر فتح التحقيق مرة أخري، ليصنع جواً من الإثارة الهوليودية ويكتم أنفاس الأمريكيين بل والعالم أجمع الذي يريد معرفة جديد ما توصل إليه في تلك القضية، التي أغلقها بنفسه مع النائب العام في يوليو الماضي، بعدما اكتشف أنه لا شيء مهم يستحق متابعة التحقيق. أوباما قال علي قناة Now This News إنه " يوجد معايير، وحينما يتعلق الأمر بتحقيقات فإننا لا نعمل بناء علي تخمينات وتسريبات ومعلومات غير مكتملة، ولكن نعمل علي قاعدة قرارات ملموسة.. منذ عدة أشهر كان قرار المباحث الفيدرالية والنائب العام ولجنة خاصة من الكونجرس يفيد بأن هيلاري أخطأت نعم ولكن ليس هناك ما يستدعي مواصلة التحقيق". وبعد حديث أوباما بيومين، خرج المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرانست ليؤكد أنه لا يستطيع "الدفاع عن قرار كومي أو انتقاده" ورداً علي اتهامات يرددها البعض بأن كومي اتخذ قراره بدوافع سياسية حيث من المعروف عنه ميوله للمعسكر الجمهوري، أوضح إيرانست "كومي رجل نزيه وصاحب مبدأ". غير أن الأمر يبدو أعقد مما تخيله أوباما وربما جيمس كومي نفسه الذي قرر إعادة فتح التحقيق، ويبدو السؤال المنطقي الآن: لماذا يعود مدير الFBI اليوم ليوحي بأنه لديه ما قد يقلب أمريكا رأساً علي عقب، في وقت تكاد فيه البلاد تنفجر جراء حالة الاستقطاب وتبادل البذاءات والاتهامات بين المرشحين للرئاسة، والأسوأ تلويح أنصار ترامب ب"حرب ثورية مسلحة وفعل كل ما يلزم" لو خسر رجلهم أمام امرأة "غارقة في الفضائح والفساد من قمة رأسها حتي أخمص قدميها". استخدام هيلاري لسيرفر شخصي في مراسلات الخارجية قضية معروفة حتي قبل ترشحها الرسمي للرئاسة، ولكن بعدما كثُر اللغط وتضاعفت سهام النقد إليها من خصومها بعد ترشحها للماراثون الرئاسي، تم التحقيق معها والتنقيب في رسائلها، وانتهي الأمر إلي ما أشار إليه أوباما. ولكن الجديد هذه المرة يبدو متشابكاً لأقصي درجة، حيث إن ما تم التوصل إليه مؤخراً يتعلق بفضائح جنسية تخص نائبا سابقا في الكونجرس يهودي الديانة يُدعي أنتوني وينر وكان متزوجاً من هوما عابدين وهي مسلمة من أصل هندي-باكستاني.. هوما عابدين هي المستشارة الأقرب والأبرز لهيلاري كلينتون التي تقول عنها "هي ابنتي الثانية".. تبلغ هوما من العمر 40 عاماً وتعرفت علي هيلاري لأول مرة وهي في التاسعة عشرة من العمر حينما كانت متدربة في البيت الأبيض عام 1995. أنتوني وينر طليق "هوما" شخص مريض يعاني عُقداً جنسية لم يستطع التخلص منها، حيث إن فضائحه غالباً حبيسة العالم الافتراضي وتتمثل في إرسال صوره عارياً لنساء وفتيات مراهقات، وتم إجباره علي الاستقالة من الكونجرس في عام 2011 علي خلفية واحدة من تلك الفضائح، وظلت "هوما" بجواره ورفضت الانفصال عنه باعتباره مريضا نفسيا ويتابع العلاج عند متخصصين، وفي عام 2013 تفجرت فضيحة ثانية لوينر بنشر صور ومكالمات جنسية له مع طالبات في المرحلة الثانوية، وفي عام 2016 تفجرت فضيحة ثالثة، وهنا صممت هوما عابدين علي الطلاق رغم أن زواجها من وينر أثمر عن طفل هو زين.. المثير للدهشة أن من ضمن مراسلات وينر الجنسية تم اكتشاف صوره عارياً علي جهاز كمبيوتر يخص فتاة مراهقة أقل من 18 عاماً تقيم بولاية نورث كارولينا، وليس ذلك فقط بل كان علي جهاز الفتاة مراسلات ومخاطبات رسمية تخص وزارة الخارجية بتوقيع هيلاري كلينتون شخصياً.. ما الذي أتي بتلك المراسلات علي جهاز الفتاة المتورطة في علاقة جنسية افتراضية مع أنتوني وينر طليق هوما عابدين أقرب المقربين من هيلاري كلينتون؟ لا أحد يملك الإجابة علي هذا السؤال، ولهذا قرر جيمس كومي فتح التحقيق مرة أخري. أما السؤال الأصعب والذي لم تستطع أي صحيفة أمريكية الإجابة عليه فهو: ماذا لو فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة ثم اكتشفت المباحث الفيدرالية أنها مدانة في قضية استخدام بريدها الإلكتروني، بمعني أنها أهملت فأفشت أسراراً للدولة، أو ماذا لو كان لهيلاري يد بشكل أو بآخر في الفضائح الجنسية الخاصة بوينر، هل ستُجبر هيلاري علي الاستقالة كما حدث مع الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون؟ أم أنها ستبقي، ووقتها من المؤكد أن ترامب وأنصاره لن يقفوا مكتوفي الأيدي! كومي المولود عام 1960 بنيويورك، نشأ وترعرع في نيوجيرسي، وله في مراهقته واقعة شهيرة، حينما احتجزه لص مسلح مع أخيه بيتر في منزلهما، وتمكن كومي البالغ من العمر 17 عاماً آنذاك، من الفرار عبر دورة المياه بحيلة ماكرة ومن ثم إبلاغ البوليس، وبعد تفوقه في دراسة القانون بجامعة شيكاجو أصبح مساعداً للقضاة الفيدراليين في نيويورك ثم فيرجينيا. يبدو الرجل متخصصاً في التنقيب بفضاح آل كلينتون، حيث التقي بيل وهيلاري، للمرة الأولي عام 1995 حيث كان وقتها معاراً كمستشار قانوني علي رأس لجنة شكلها مجلس الشيوخ للتحقيق في فضيحة عقارات عُرفت وقتذاك في وسائل الإعلام الأمريكية بWhitewater وكان يُشتبه تورط الرئيس الأمريكي وزوجته فيها، ولكن التحقيق انتهي برداً وسلاماً علي كلينتون وزوجته، قبل أن يعود كومي مرة ثانية للبيت الأبيض للتحقيق في شبهة فساد أخري قبيل مغادرة كلينتون منصبه في يناير من 2001 ولكن عودة كومي كانت تتعلق هذه المرة بأساليب ملتوية اتبعها بيل كلينتون في إعداد قائمة بالمعفو عنهم في السجون الأمريكية، وكان الاسم المثير للجدل رجل الأعمال اليهودي مارك ريتش، صاحب الجنسيات الأمريكية والإسبانية والإسرائيلية والأصول البلجيكية، والذي كان متهماً في قضايا فساد وتهرب ضريبي وعلاقات مشبوهة مع نظام الخوميني في إيران، في أوج أزمة احتجاز رهائن أمريكيين بالسفارة الأمريكية في طهران مدة ال444 يوماً والتي اندلعت عام 1979 وكان ريتش مقيماً في سويسرا التي توفي بها عام 2013 والتي رفضت تسليمه لواشنطن عدة مرات، حيث كان يواجه عقوبات بالسجن تصل ل325عاماً. في عام 2004 كان كومي مساعداً أول للنائب العام جون أشكروفت المُعين من الرئيس الجمهوري آنذاك جورج دبليو بوش، وكان له موقف شهير، حينما تعرض أشكروفت لوعكة صحية ألزمته الفراش، حيث وقف بالمرصاد لمبعوثي البيت الأبيض الذين حاولوا فرض أساليب تسمح لوكالة الأمن القومي الأمريكي بالتنصت علي المكالمات والحياة الخاصة للمواطنين الأمريكيين عموماً، وهو ما رفضه كومي علناً معتبراً إياه "خرق واضح للقانون". وفي عام 2005 غادر كومي الإدارة الأمريكية للعمل في القطاع الخاص، وكانت بدايته في شركة لوكهيد مارتن عملاق صناعة السلاح، ثم وظيفة مرموقة في البنك البريطاني الشهير HSB». في عام 2013 اختاره الرئيس باراك أوباما، رغم ميوله الجمهورية، لتولي منصب المدير العام للمباحث الفيدرالية، خلفاً لروبرت مولر، الذي كان أيضاً متضامناً مع كومي وجون أشكروفت في رفضهما لأساليب جورج بوش الابن. وهو ما لاقي ترحيباً وإجماعاً من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين والديموقراطيين علي السواء. في منصبه، الذي يخضع نظرياً لإشراف وزارة العدل (النائب العام في الولايات المتحدة هو ما يعادل وزير العدل في مصر وبلدان أخري)، لوحظ اختلاف كومي عن أسلافه سريعاً، فمع تزايد موجات قمع الشرطة ضد الأمريكيين من أصول أفريقية عامي 2014 و2015 ألقي كومي كلمة في جامعة شيكاجو مفادها أن "التدقيق في ممارسات رجال الشرطة له نتائج سلبية علي عزمهم في مواجهة المجرمين وأرباب السوابق" فيما فُهم ضمناً أنه تأييد لعنف الشرطة ضد الأفروأمريكيين، الذين يلقون مصرعهم بمعدل من 2 إلي4 أفراد يومياً علي يد رجال البوليس، ثم يتضح فيما بعد أن الشخص القتيل لم يكن يمثل خطراً علي الأمن العام، ولم يكن مسلحاً من الأساس.. موقف أغضب باراك أوباما ووزيرة العدل لوريتا لينش.. تماماً كما أغضبهما موقفه بالإصرار علي إعادة فتح التحقيق في قضية هيلاري كلينتون.