قبل ثلاثة أشهر كتبنا في هذا المكان مقالة نهنئ فيها ألمانيا.. بعيد الوحدة الألمانية 3 أكتوبر والذي يتوافق أيضا مع عيد النصر المصري السادس من أكتوبر. ألمانيا احتفلت بعيد الوحدة »العشرين« بعد سقوط »سور برلين« الشهير الذي كان رمزا للقهر والذل والذي ظل يفرق بين أبناء الشعب الألماني في الشرق والغرب لمدة 20عاما.. وكانت فرحة الشعب الألماني في الجانبين فرحة جارفة. ألمانيا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية كانت قد قسمت »بدون استثناء« إلي دولتين الغربية تحت سيطرة قوي التحالف الغربي ممثلا في الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنجلترا وفرنسا وبلجيكا والشرقية تحت سيطرة حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي. وبالرغم من حالة العداء بين النظامين في الشرق والغرب والذي كان يعكس الصراع بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو إلا أن القيادات السياسية المتوالية في ألمانياالغربية علي مختلف توجهاتها السياسية خلال الأربعين عاما كانت واضعة نصب أعينها وفي أعماق وجدانها خيار »الوحدة الألمانية« وظلت تسعي وبإصرار شديد لتحقيقه إلي أن جاءت الفرصة المواتية بسقوط الاتحاد السوفيتي وتحقق الهدف.. وظلت بون BOnn هذه القرية الصغيرة الجميلة علي ضفاف نهر الراين عاصمة لألمانياالغربية طوال الأربعين عاما إلي أن عادت برلين مرة أخري عاصمة لألمانيا الاتحادية.. »ألمانيا الموحدة«. أقول هذا بمناسبة »الاستفتاء« علي مصير جنوب السودان الذي بدأت فعالياته أول أمس الأحد 9يناير 2011 تحت رعاية الأممالمتحدة والمجتمع الدولي والذي تشير معظم الدلائل علي أن الانفصال قادم لا محالة. ولقد كان لي فرصة الالتقاء قبل أسبوعين مع مجموعة من الصحفيين من جنوب السودان كانوا في زيارة لمصر بدعوة من وزارة الخارجية المصرية وأجريت معهم حوارات مستفيضة في مركز تدريب الصحفيين التابع للمجلس الأعلي للصحافة حول مستقبل جنوب السودان ووجدت منهم جميعا سواء مسلمين أو مسيحيين إصرارا علي الانفصال موضحين الأسباب التي تدعو أهل الجنوب إلي هذا الخيار المر.. وتتركز هذه الأسباب أساسا علي الإهمال الشديد من قبل حكومات الخرطوملجنوب السودان ومواطنيه وكأنهم دولة معادية أو مواطنون من الدرجة الثالثة وليست جزءا من الدولة الأم بل الأكثر ثراء. أكدوا أن هناك إهمالا شديدا للمرافق العامة من طرق ووسائل مواصلات واتصالات ومياه الشرب والصرف الصحي ناهيك عن التعليم والرعاية الصحية. كما أن هناك إحساسا لدي أهالي الجنوب بأن حكومات الخرطوم المتوالية تحاول تطبيق الثقافة واللغة العربية والشريعة الإسلامية بالقوة علي أهالي الجنوب ونسبة كبيرة منهم من المسيحيين. وحكومات الخرطوم المتوالية لم تهمل الجنوب فقط في مجال الخدمات وإنما أيضا في مجال التنمية الاقتصادية وذلك بالرغم من الثروات والإمكانيات الهائلة التي يتمتع بها الجنوب سواء في مجال الزراعة أو التعدين وفي مقدمتها الثروة البترولية حيث ينتج السودان أكثر من 500 ألف برميل يوميا منها 400 ألف برميل علي الأقل من الآبار الموجودة في جنوب السودان أي أكثر من 70٪ والتي كان يمكن أن تعود بالخير علي السودان كله. ويري المراقبون أن زيارة الرئيس عمر البشير قبل أسبوعين لمدينة »جوبا« عاصمة الجنوب ولقائه مع سيلفاكير النائب الأول للرئيس السوداني قد اتسمت بالود والتفاؤل ولقيت ترحيبا من المسئولين في الجنوب إلا أنها وللأسف جاءت متأخرة كثيرا أي بعد فوات الأوان. هناك تراشق وتبادل اتهامات بين الجانبين ستكون له بلا شك عواقب وخيمة في المستقبل أيا كانت نتيجة الاستفتاء ففي الوقت الذي يتهم فيه الجنوبيون حكومة الخرطوم بمحاولة نشر تعاليم الدين الإسلامي والتعريب القسري في الجنوب يشير الشماليون إلي »المناطق المقفولة« في الجنوب التي يمنع فيها لبس الزي العربي والثقافة العربية وأن الكنائس هي وحدها التي يسمح لها بمزاولة أنشطتها بحرية ويبرر الجنوبيون ذلك بأن الإنجليز هم الذين أنشأوا هذه المناطق عام 1922 وكان هدفها منع مزاولة تجارة الرقيق. ومما لا شك فيه أن نتيجة هذا الاستفتاء سواء جاءت سلبا أو إيجابا لابد أن تحترم لأنها تمثل إرادة شعب الجنوب طالما أنه أجري في إطار من الديمقراطية والحرية والشفافية وهو ما تؤكده مفوضية الاستفتاء والمراقبون الدوليون والعرب. غير أن هذا الاستفتاء أيا كانت النتيجة التي سيسفر عنها سيهبط كالزلزال علي السودان بل والمنطقة المحيطة به.. سوف يهز كيان السودان شماله وجنوبه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وسيتطلب اتخاذ إجراءات عديدة في المجالات القانونية والإدارية بداية من ترسيم الحدود بين السودان الأم والدولة الجديدة والتي ستعد أحدث دولة في أفريقيا والعالم واتخاذ كافة التدابير لاحترام هذه الحدود والحيلولة دون انتهاكها من أي من الطرفين بالإضافة إلي حماية أرواح رعايا الجانبين والحفاظ علي ممتلكاتهم لدي الجانب الآخر. ونحن نأمل أن يمر هذا الاستفتاء علي خير لما فيه صالح شعب السودان الشقيق في الشمال والجنوب خاصة أنه يتواكب مع احتفال السودان بمرور 55عاما علي استقلاله ومن يدري ربما يعود السودان مرة أخري إلي وحدته مثلما فعل الألمان بعد أربعين عاما من الانقسام. ونظرا لأن السودان الشقيق يمثل بعدا استراتيجيا وأمنيا في غاية الأهمية بالنسبة لمصر كما أن هناك روابط تاريخية وثقافية وثيقة بين الشعبين المصري والسوداني. ولهذا كله فإن مصر تتابع بكل اهتمام تطورات الأحداث في السودان وتأمل أن يمر السودان بهذا المنعطف التاريخي بسلام وأن يتحقق الأمن والاستقرار لشعبه في الشمال والجنوب. وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية وشركاؤها الأوربيون حريصين علي هذا الاستفتاء فإننا كعرب وأفارقة لابد أن نكون أكثر حرصا منهم علي مستقبل السودان وشعبه وأن نقدم المزيد من الدعم المادي والمعنوي للسودان حتي يتمكن من المحافظة علي وحدة شعبه وسلامة أراضيه.