حمل حفل ختام الدورة 34 لمهرجان القاهرة السينمائي، عدة مفاجآت سعيدة للسينما المصرية، جاءت بعد سنوات طويلة جدا لم يتمكن فيها فيلم مصري أو فنان مصري من الحصول علي أية جوائز من المهرجان السينمائي الدولي الوحيد الذي يقام علي أرض مصر فقد حصدت السينما المصرية عدة جوائز مهمة من خلال البرامج الرسمية للمهرجان، أهمها جائزة الهرم الذهبي التي نالها فيلم "الشوق" للمخرج خالد الحجر، وأفضل ممثلة مناصفة التي حصلت عليها سوسن بدرعن فيلم الشوق، والفرنسية إيزابيل هوبير عن فيلم كوبا كوبانا ، وأفضل ممثل التي حصل عليها "عمرو واكد" مناصفة مع الإيطالي "أليساندروجاسمان "عن الفيلم الإيطالي "الأب والغريب"، كما حصل فيلم ميكروفون علي الجائزة الأولي في مسابقة الفيلم العربي، وهي نتيجة تستحقها الأفلام التي خرجت من إطار النمطية، والسطحية التي طغت علي السينما المصرية، وكادت تقضي عليها، غير أن بصيصاً من النور بدأ يظهر في نهاية النفق المظلم يؤكد أن السنوات القادمة سوف تكون أفضل كثيراً. الشوق من الأفلام التي تقتحم عالم العشوائيات، وتقدم صورة واقعية لأناس اعتدنا أن نطلق أبصارنا بعيداً عنهم حتي لانراهم، ولانتعذب بوجودهم بيننا، إنهم أُناس يسحقهم الفقر والمرض والجهل، يبحثون عن فرصة للوجود وتضيق مساحة أحلامهم، وينظرون للدنيا من" خرم إبرة"، في محاولة للعثور عن مخرج أو نسمة هواء تنعش نفوسهم المعذبة، والمثقلة بهموم أكبر من الاحتمال! في حارة شعبية عشوائية بمدينة الاسكندرية تعيش الست "فاطمة" سوسن بدر مع زوجها "الصراماتي"-يعمل في ترميم الأحذية البالية -سيد رجب، وإبنتيها شوق "روبي" وشقيقتها الصغري "كوكي" وطفل مريض يتأوه من آلام الكلي، ولاتجد الأم الكادحة وسيلة لإسكات آلامه، أو حمايته من شبح الموت الذي يحوم حوله إلا الاستعانة بالعفاريت والجان، فهي تبدو "ملبوسة" حزينة ومهمومة، تحارب جيوشاً من الأشباح التي تحاصرها وتنهك قواها، تسعي لحماية أسرتها الصغيرة، وتخشي علي ابنتيها من الضياع أو الانتقال من منزلها الفقير الذي يشبه القبوأو القبر إلي منزل زوج أكثر فقراً، تكسب فاطمة رزقها بطحن البن، لقراءة الفنجان لنساء الحارة، وتسعي لمعرفة أسرارهن حتي تستخدمها في قراءة الطالع، بعد أن تضيق بها الدنيا تضطر فاطمة للنزول للقاهرة للتسول، ولكن ماتحصل عليه من نقود، لايحقق لها الستر الذي تبحث عنه وترجوه من الحياة، في غيابها الدائم للبحث عن الرزق يخطف الموت طفلها، وينغمس زوجها في علاقة عابرة مع إمرأة أشد منه فقراً وعوزاً، وتضيع إبنتاها بعد فشلهما في العثور علي دفء الحب، وحنان الأم التي شغلها جمع المال عن إدراك الخطر الحقيقي الذي يحيط بابنيتها، فقد رفضت فاطمة زواج إبنتها شوق من الشاب حسين "أحمد عزمي" الذي يحبها بصدق نظرا لفقره الشديد، أما الابنة الصغري فقد هجرها حبيبها سالم"محمد رمضان "لأنه كره الحارة وفقرها وإنطلق باحثاً عن طوق نجاه، أو فرصة يتعلق بها تدفعه بعيداً عن رائحة الفقر والعجز والحرمان! السيناريو الذي كتبه سيد رجب يزخر بكثير من التفاصيل الحياتية لهؤلاء البشر، ولكنه يفرد مساحة هائلة من الاهتمام لشخصية فاطمة التي قدمتها سوسن بدر بمقدرة فائقة وهائلة، استحقت عنها جائزة أفضل ممثلة تلك التي حصلت عليها في ختام الدورة 34 من مهرجان القاهرة السينمائي ، فاطمة "سوسن بدر"هي المحرك الرئيسي للأحداث، ومن خلالها نطل علي بقية شخصيات الفيلم، وعلي عالم كامل لبشر تعساء يبحثون عن فرصة للنجاة من مصائر تكاد تكون محتومة! شخصيات الحارة من رجال أو نساء في حالة من الاستسلام التام لأقدارهم، ليس بينهم من يقاتل سوي الست فاطمة، التي تجمع بين القوة والانسحاق، بين الغلب الشديد والجبروت، إنها كمن يحارب طواحين الهواء، وفي الوقت الذي تعود فيه إلي منزلها تحمل "صرة "من الفلوس، هي حصيلة ماجمعته من التسول، تكتشف أن كل ماكانت تحارب من أجله قد هزمها، وأن ماتحملته من مذلة وبؤس لم يصل بها وبأسرتها إلي بر الأمان، بل أغرق الجميع في بحار من الضياع، وأن من مدت لهم يدها بالمساعدة خذلوها، وتخلوا عنها، فاستسلمت أخيراً للموت المحتم! المخرج خالد الحجر يقدم مع فيلم "الشوق" أكثر تجاربه السينمائية اكتمالاً ونضجاً، وإن كان يبدو في هذا الفيلم الذي ينتمي لمدرسة الواقعية، وكأنه ينفخ في الزبادي، بعد الهجوم الذي لقاه بعد عرض فيلمه الأخير "قبلات مسروقه"،ةولذا تعمد أن يخلو الشوق من أي مشاهد ساخنة، أو قبلات!!وهو الأمر الذي يمكن أن يخيب آمال من أرادوا الهجوم علي الفيلم، وسوف يكتشف من اطلقوا الشائعات أن الصورة التي تم نشرها لروبي وشقيقتها "ميرهان"، عبارة عن لقطة من موقف يثير الحزن والشجن، وليس به أي رائحة للجنس، بل إن المخرج إنتابته حالة من التحفظ وجعل روبي ترتدي طوال الوقت ملابس بأكمام طويلة حتي داخل المنزل، وميزة فيلم الشوق أنه جاء في زمن لم تعد فيه للشخصيات النسائية مكاناً في السينما المصرية، ومعظم الأفلام التي تم إنتاجها في العشرين سنة الماضية، قامت بتهميش دور المرأة، أو وضعها في الدرجة الثانية أو الثالثة! وحشد خالد الحجر لفيلم الشوق مجموعة من أصحاب المواهب الشابة منهم أحمد عزمي الذي لعب شخصية حسين الشاب المكافح المسالم الذي يشعر بالمسؤولية عن المصير الذي أدي لسقوط حبيبته"شوق" في براثن الغواية، ومحمد رمضان الذي قدم شخصية سالم النموذج العصري للشاب اللامنتمي، الذي يتخلي عن أهله وحبيبته هربا من الفقر، وشوق الفتاة التي تبحث عن الحب والستر، وتسقط بعد سلسلة من الإحباطات والأزمات التي تشل إرادتها وتفكيرها، وشقيقتها "ميرهان"التي تبدو أكثر جرأة وتمردا علي ظروفها، أما أهل الحارة فيبرز منهم أحمد كمال الصامت دائما، سيد رجب وسلوي محمد علي و"دعاء طعيمة" منحة زيتون ويوسف كمال مجموعة من الممثلين لعبوا أدواراً قصيرة ولكنها شديدة الأهمية والتأثير، ومن العناصر الفنية المميزة للفيلم مدير التصوير" نتستوركالفور" الذي استخدم الإضاءة الطبيعية للمكان، وموسيقي هشام جبر، ومونتاج منارحسني وإن كان الأمر يحتاج منها لاختزال بعض اللقطات، وخاصة في مشاهد النهاية لتكثيف اللحظة الدرامية للوصول للكريشندو الأخير، وخروج شوق وشقيقتها من الحارة وهما تحملان صرة النقود! فيلم الشوق سوف يثير عاصفة من الأحاديث عنه وحوله ولكنه يستحقها.