ما بعد تسونامي العمليات الإرهابية لداعش، الذي اجتاح العالم علي مدار الفترة الماضية، وكانت نقطته الساخنة العظمي في مجازر باريس، يجب العودة أولا للوراء قليلا، لمعرفة كيف تحول "تنظيم داعش" وخليفته المزعوم أبو بكر البغدادي، لأكبر عصابة خطر علي وجه الأرض تهدد سلامها وأمن شعوبها عبر شبكات لا نهائية من الخلايا النائمة والذئاب المنفردة التي تدين بالولاء والسمع والطاعة لخلافة الرقة، قبل أن يصبح كذلك عاملا محفزًا لغيرة تنظيمه إن جاز التعبير، تدفع غيره من الكيانات المسلحة، وفي مقدمتها القاعدة، لارتكاب فظائع لمزاحمته في المشهد الإرهابي.. هجمات داعش الدموية في سيناءوباريسوتونس أشعلت غيرة القاعدة فكانت ضربة "موباكو المالية" عدة أسباب رئيسية حتمت علي داعش الخروج من القمقم علي هذا النحو الدموي، لعل أبرزها، تمكنها من السيطرة علي أراض شاسعة في العراقوسوريا، وفرض دستورها وقوانينها عليها، ومن ثم إعلان الخلافة من فوقها، وهو ما لم يفكر فيه مطلقًا من قبل تنظيم القاعدة، رغم أنه الملهم التاريخي لمختلف الجماعات المسلحة حول العالم في العقدين الأخيرين علي وجه التحديد، ومن ثم انتقلت العشرات من الكيانات الجهادية الدموية من تبعية وبيعة أسامة بن لادن وخلفائه إلي اللحاق بركاب داعش، وفق ماهر فرغلي الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية المسلحة.. ففي أقل من عام بايع داعش العشرات من التنظيمات المسلحة الخطرة والمؤثرة حول العالم، لعل أشهرها أنصار بيت المقدس في مصر، وبوكو حرام في نيجيريا، وتحريك طالبان في باكستان، وكتيبة عقبة بن نافع في تونس، وجنود الخلافة في الجزائر، وأنصار الدين في مالي، وشباب المجاهدين في الصومال، ومجلس شوري شباب الإسلام وأنصار الشريعة في ليبيا، وكتيبة الأقصي وجماعة خرسان في سوريا، وأنصار الإسلام في العراق، وغيرها.. وذلك في وقت فقدت فيه القاعدة السيطرة علي نفوذها حتي الروحي والمرجعي.. إذن، الفارق الجوهري بين القاعدة وتوابعها، وتنظيم داعش بطبعاته السورية والعراقية وأخيرًا الليبية، وبعيدًا عن كون الأخير أكثر دموية وشراسة والتصاقًا بسياسة التفزيع والترهيب من البداية، فإن رجال أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، لم ينشدوا، بل لم يحاولوا، تأسيس دولة لها نظام وقوانين وشرطة وموظفون ومؤسسات، بينما أتباع أبو بكر البغدادي، لا يتحركون إلا لبسط نفوذهم علي مساحات من الأراضي مترامية الأطراف، بغرض رفع رايتهم السوداء فوقها. استفادة داعش من علاقات متينة بعدد من أجهزة الاستخبارات العربية والإقليمية والدولية، وفي مقدمتها مخابرات قطر والسعودية وتركيا، في إطار الحرب علي بشار الأسد، وانتهاج استراتيجية ملتوية بضوء أخضر أمريكي، بتمويل التنظيمات الإرهابية بالسلاح والمعلومات والمال لضرب النظام السوري العنيد وإسقاطه عنوة، إنما فتح لداعش آفاقًا رحبة من فضاءات المساومة وتخليص المصالح وتحقيق المكاسب المعنوية والمادية التي أعانته وتعينه علي الصمود في وجه الجميع حتي الآن، وهو أمر غير متاح أيضًا للقاعدة، التي فقدت اتصالاتها بالمخابرات الدولية بنهاية الحرب السوفيتية الأفغانية نهاية ثمانينيات القرن الماضي.. انتهاج سياسات تجنيدية متطورة تعتمد علي وسائل التواصل الاجتماعي تخاطب الجميع، رجالا ونساءً، شبابًا وفتيات، بكل لغات العالم وفي شتي بقاع الأرض، أكسب داعش جنودًا تحت الطلب من مختلف الجنسيات، فحسب مراكز أبحاث مرموقة فإن هناك نحو 40 ألف تويتة يومية للتنظيم ومحبيه علي تويتر، وأكثر من 210 مواقع له، ناهيك عن عشرات الآلاف من الحسابات المحبة أو المتعاطفة علي فيس بوك، فضلا عن غرف الدردشة والمنتديات المرتبطة ببعض ألعاب البلاي ستيشن، وتستخدم كنوافذ تجنيد وجذب للعناصر المتطرفة، وهو ما حدث مثلا مع عدد من أعضاء الخلية التي نفذت جريمة باريس الأخيرة، وثبت من التحقيقات أن انضمامهم لداعش ثم فيما بعد تلقيهم أوامر العملية وتعليماتها، تم من خلال نسخة معدلة لإحدي الألعاب الإلكترونية الشهيرة. في العموم تحرص القاعدة، أو من بعدها ابنها العاق داعش، علي التدفق المستمر لموادها الإعلامية، لتعطي صورة لمتابعي الإنترنت أن التنظيم علي درجة عالية من التنظيم والتسليح، ويستحق الانضمام إليه، وهو ما يفسر سر الاهتمام الرهيب بإنتاج فيديوهات عالية التقنية وفائقة الجودة من حيث الصورة والإخراج والصوت، لجرائمه ومذابحه وحرائقه التي يمارسها ضد الأبرياء وضد أسراه ورهائنه. الغني الفاحش لداعش، قوي من شوكته وثبت أقدمه علي الأرض، ومصادره في ذلك، وفق ما نقلت دراسة قيمة في هذا الصدد نشرها المركز الإقليمي للدراسات عن الباحثة الأمريكية كاثرين فيليب، تتركز في 12 وسيلة، هي: 1- تبرعات أثرياء الخليج: حيث رصد تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في شهر يونيو الماضي وجود عدد كبير من الأثرياء والشخصيات الخليجية التي دعمت ومولت الأنشطة الإرهابية في كلٍّ من العراقوسوريا، ووفقًا للتقرير هناك (28) شخصية سعودية، و(12) عراقية، و(5) من الكويت، إلي جانب عدد آخر من قطر والإمارات والبحرين وقطر. 2- أموال الصدقات والتبرعات والزكاة: حيث عملت المنابر والقنوات الإسلامية خلال عامي2011/2012علي تشجيع المسلمين علي توجيه أموال الزكاة والتبرعات والصدقات لتأييد الجهاد والمقاومة في سوريا. 3- التمويل الخليجي (الرسمي) خصوصًا من دول مثل السعودية والكويتوقطر والإمارات، حيث قامت هذه الدول بتمويل هذا التنظيم في البداية كجزء من حربها بالوكالة ضد نظام الأسد، قبل أن ينقلب عليها ويبدأ في التوسع والتمدد وتهديد دول الخليج ذاتها، ويمكن القول إن هذا المصدر من تمويل داعش قد تراجع إلي حدٍّ كبير الآن. خصوصًا بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي بالإجماع حول قطع التمويل عن كلٍّ من تنظيمَيْ داعش وجبهة النصرة، باعتبارهما تنظيمين إرهابيين. 4- التمويل الدولي: طبقًا لتقرير وزارة الخارجية الأمريكية السابق الإشارة إليه، وجد أن التمويل الذي تحصل عليه داعش يأتي من حوالي 31 دولة عبر العالم، من: الخليج، وباكستان، والجزائر، وتركيا، ولبنان، وغانا، والسودان، وبريطانيا، والسويد، وهولندا، واستراليا، والسنغال، وتايلاند، وبنجلاديش، وغيرها من الدول؛ حيث تعتمد داعش (وهي في ذلك مثلها مثل القاعدة) علي شركاء محليين مسجلين تحت أسماء وهمية، وتمارس نشاطها من وراء ستار قانوني وشرعي. 5- عوائد تحرير الأجانب المختطفين: حيث دأبت داعش علي اختطاف المواطنين الأجانب، والموظفين الدوليين، والصحفيين الغربيين، ومساومة ذويهم ودولهم علي الإفراج عنهم مقابل ملايين الدولارات كفدية. وقد ذكرت بعض التقارير الصحفية أن عوائد هذه الطريقة بلغت أكثر من 25 مليون دولار سنويًّا. 6- نهب الموارد والسلع من الأماكن المسيطر عليها: والمرافق التي توفر لها عوائد تُقدر بالملايين كل شهر. 7- عوائد التهريب: من النفط، والأسلحة، والآثار، والمخدرات، والاتجار في البشر.. إلخ؛ حيث ذكر تقرير لقناة ABC الأمريكية وغيرها من المصادر أن العوائد اليومية من النفط المهرب ما بين 2 إلي 4 ملايين دولار. 8- الهبات من مؤيدي التنظيم: المنضمين لهذا التنظيم يأتونه محملين بكل ما يملكونه، ويتنازلون عنه، كونهم يؤمنون بأنهم في مهمة إلهية سامية. وذكرت بعض المصادر أن مؤيدي التنظيم في مدينة الموصل وفروا لداعش -حسب أحد المصادر- حوالي مليون دولار شهريًّا. 9- الابتزاز: إلي جانب فرض الترويع والقتل علي المواطنين الأبرياء، فإنه يقوم بابتزاز الفلاحين والموظفين في هذه المناطق، ويجبر غير المسلمين علي دفع الجزية، بصورة أدت إلي تهجير مئات الآلاف منهم. إلي جانب ذلك أيضًا تقوم داعش بفرض ضرائب شهرية علي المؤسسات المحلية بحوالي 8 ملايين دولار. 10- السرقة والنهب: المثال علي ذلك حادثة سطو داعش علي البنك المركزي في الموصل. 11- عائدات الحبوب: حيث قال أحد مسئولي وزارة الزاعة العراقية إن داعش بدأت تسيطر علي حوالي ثلث إنتاج العراق من القمح. 12- مناجم الذهب التي استولت عليها داعش في مدينة الموصل بعد سيطرتها عليها. ما سبق لم تتمكن القاعدة من تحصيل ولو ربعه كموارد ذاتية لها، ومن ثم ظلت تعتمد في جلب الماليات علي مصادر مشابهة لداعش لكنها أٌقل في المردود.. الثابت أن القاعدة، كانت تعتمد بالأساس علي التمويل الذاتي من قيادات غنية، ك"بن لادن" نفسه، أو من قبل متعاطفين أثرياء "متدينين"، وخاصة في الخليج، أو عبر منظمات أهلية كانت تعمل، في بقاع شتي من العالم، كواجهات لجمع التبرعات للتنظيم، ناهيك عن لجوء بعض أفرع الأخير، وخاصة في اليمن والمغرب العربي والصومال، لقيادة عمليات خطف رهائن، أو القرصنة علي سفن في عرض البحر، أو الانخراط في سلك المخدرات، بالاتجار أو بمساعدة المهربين، مقابل مبالغ سمسرة. ثم كانت الطفرة الكبري في أداء التنظيم الأشرس حاليًا، داعش، برأي الدكتور كمال حبيب، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، حينما قرر الخروج من محيط سورياوالعراق ليضرب بعنف، فكانت مجازر باريس، واستهداف ركب الحرس الرئاسي التونسي، وغيرها، وهي حوادث جاءت علي نمط حوادث سابقة لداعش في الذكري الأولي لتأسيس خلافته الوهمية نهاية يونيو الماضي، بعمليات ضربت الكويت وفرنسا والسعودية، إلي جانب المحاولة الفاشلة لاحتلال وعزل الشيخ زويد في مصر، والتي قامت بها عناصر محسوبة علي ما يعرف بولاية سيناء/ أنصار بيت المقدس، تلبية لنداء رجال البغدادي بهز العالم بالهجمات. وربما لم يكن داعش ليخرج علي ذلك النحو المفجع طيلة نوفمبرالماضي، إلا ليخفف الضغط علي نفسه فوق الأراضي الذي يسيطر عليها في العراقوسوريا، علي إثر استهدافه المركز من جانب الطيران والبحرية الروسيتين، وخاصة أنه لم يلجأ لتك الخطوة رغم تواصل ضربه علي يد التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية علي مدار الشهور الماضية، إذ كانت في الأغلب ضربات مستأنسة، لكنها وعلي ما يبدو وبعد الجرح الفرنسي الكبير ودخول باريس بقوة في العمليات بل والتحالف مع موسكو ضد التنظيم المتطرف، ستكون موجعة. التسونامي الداعشي وقع إذن، وصار حقيقة ملموسة سيدفع الجميع ثمنها، ولعل أولي الفواتير المتعلقة به، كانت في ما يمكن تسميته إثارة الغيرة والحقد الإرهابي لدي التنظيمات المسلحة المنافسة. القاعدة علي وجه التحديد وجدت نفسها تخرج رويدًا رويدًا من هالة الزعامة لصالح داعش، فكانت عملية باماكو في مالي والتي تم خلالها قيام عدد من المسلحين تابعون للتنظيم القاعدي "المرابطون"، بزعامة مختار بلمختار، باقتحام فندق للصفوة واحتجاز 170 رهينة معظمهم من النزلاء الأجانب، مما اضطر القوات الخاصة المالية لتحريرهم بالقوة ما أسقط العشرات بين قتلي وجرحي. العملية شهدت تنسيقًا تامًا بين "المرابطون" ومجموعة "إمارة الصحراء" في تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، بكل ما يحمله ذلك من دلالات عن رغبة تنظيم القاعدة الأم في العودة بقوة علي الساحة لتعكير صفو الزهو الداعشي، وهو تنافس بين دمويين سيدفع العالم ثمنه غاليًا بلا شك. لكن أخطر ما في خروج العفريت الداعشي ليطارد العالم الغربي، أن النظام الدولي الجديد سيواجه تطرفه بتطرف مماثل لتحصين نفسه أمنيًا واجتماعيًا، ليدفع المشردين والملكومين والمكويين بنيران الحروب والفقر الثمن، فتنقل الباحثة نوران شفيق، وهي مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وجهة نظر الغرب تجاه قضية اللاجئين السوريين، فتقول إن "الغرب سيتعامل مع قضية اللاجئين بقدر أكبر من الحذر، والتأكد من تأييدهم للقيم الأوروبية، وطرد من يعارضونها منهم".