أين المحكمة الجنائية الدولية من كل الجرائم البشعة التى يقترفها تنظيم داعش يومياً؟ هل إحراقُ الطيار الأردنى لا يُشكِّل مبرراً قانونياً لكى تتحرك المحكمة، وقبلها إهدار حياة عشرات الآلاف فى كل الأراضى التى مرَّ بها داعش؟ وإذا كان الدم العربى رخيصاً، ما الذى تنتظره المحكمة بعد ذبح اليابانيين والفرنسيين والأمريكيين؟ وهل يرون التهديد بقتل كل من تضامن فى مسيرة ضحايا مجلة شارلى إبدو فى باريس مما يجوز التجاوز عنه؟ هناك أمور تجرى على الساحة الدولية تستحق التأمل وإعادة التفكير، فقد فضَحَ استقبالُ أمريكا لوفد من جماعة الإخوان قبل أيام مزاعم الغرب عن جديته فى محاربة الإرهاب الذى تنكوى به شعوب المنطقة والذى يتصدر مشهده داعش، وفى جانب آخر يتولى الإخوان القيام بكل العمليات الإرهابية الممكنة! ومن ناحيته، بدَّد إردوغان الأوهام التى يروّجون لها بأن هناك فروقاً جوهرية بين الإخوان، التى ينتمى لها شخصياً، وبين تنظيم داعش، بعد أن تكشف التعاون الوثيق بين الطرفين، بما يصعب معه تصور أن يجرى هذا خروجاً على إرادة التنظيم الدولى للإخوان، خاصة بعد أن أصبحت تركيا، وفق التقارير المنشورة، أهمَ حلقات تمويل داعش عن طريق شراء البترول الذى يسيطر على حقوله فى سوريا (6 حقول) والعراق (13 حقلاً)، إلى جانب 3 مصافٍ للبترول فى العراق! وهذا بيزنس ضخم يعود بأرباح هائلة على كل الأطراف المتعاملة فيه، حيث يُقدِّم داعش إغراءات بطرحه للبترول الذى ينهبه بسعر أقل بنحو 75 فى المئة من السعر العالمى، بما يحقق لتركيا وغيرها من المشترين فرصة هائلة لإعادة بيعه بعد ذلك بما يعود عليهم بأرباح خيالية! إضافة إلى قيام تركيا حالياً بدور معسكر التجميع لمقاتلى داعش القادمين من آسيا الوسطى والقوقاز والخليج وشمال إفريقيا وأوروبا، ثم تسهيل عبورهم بعد ذلك للحاق بداعش فى سورياوالعراق! هل يمكن أن تقوم تركيا بكل هذا ضد إرادة الغرب بقيادة أمريكا؟ وهل يمكن تصور أن يتعارض هذا مع المطلوب منها القيام به لإثبات ولائها للاتحاد الأوروبى الذى تلهث للانضمام إليه والذى تسعى بكل طاقتها إلى تقديم الدليل بعد الدليل بما يثبت جدارتها فى الحصول على عضويته؟ ولكن، كل ما هو منسوب إلى تركيا يخرق نصوصاً قاطعة فى قرار مجلس الأمن 2170 فى أغسطس 2014، وكان حرياً أن يتقدم أحد إلى المجلس لاتخاذ قرار ضد هذه الانتهاكات الصارخة، على الأقل للردّ على الولولة الأردوغانية على شرعية مرسى! وإضافة إلى غضّ أمريكا وحلفائها النظر عن تحصيل داعش لموارد البترول، التى يُقدِّرها بعض الباحثين من 3 إلى 4 ملايين دولار يومياً، فإن البعض يرصد لداعش أكثر من 10 موارد أخرى تتحرك وتنمو دون أن يعيقها أحد، مثل: التمويلات الخليجية، سواء الرسمية من بعض الدول أو من تبرعات الأثرياء بشكل شخصى، إضافة إلى تبرعات من أكثر من 30 دولة أخرى، ومن عوائد إتاوات الإفراج عن الأجانب المختطفين، ونهب البنوك والموارد، وعائدات بيع الحبوب، حيث بسط داعش يده على نحو 30 بالمئة من انتاج العراق من الحبوب، إضافة إلى مناجم الذهب فى الموصل! كل هذا جعل داعش أغنى تنظيم إرهابى فى العالم بلا جدال! ثم، هنالك أسئلة تفرض نفسها بشدة: كيف ينعم داعش بهذه الطمأنينة البادية لكل عين؟ ومن أين له بكل هذا الثبات فى إقدامه على عملياته الإرهابية غير المسبوقة؟ وكيف له أن يُحدِث كل هذه الصدمات المُزلزِلة لكل من يتصور أن الأمر قد وصل إلى أقصى بشاعة ممكنة، فإذا بابتكارات يعجز عن تصديقها أحد؟ وكيف لعملياته الإجرامية أن تعمّ الإقليم بأسره، وأن تصل تهديداته إلى العالم كله، ثم لا ينجو من ذلك سوى إسرائيل؟ ألم يحسب عواقبَ استفزازه لقوى إقليمية ودولية بإحراقه للطيار الأردنى بهذه الوحشية ضد كل المعايير الإنسانية والمواثيق الدولية الخاصة بمعاملة الأسرى؟ كيف تمكنت أمريكا من تكوين تحالف دولى ضد صدام حسين فى غضون أشهر قليلة، ثم إلحاق الهزيمة بالجيش العراقى الذى كان يزيد عن مليون مقاتل، ثم تعلن أن الحرب ضد داعش، الذى لا يزيد مقاتلوه عن 50 ألفاً، سوف تستغرق سنوات؟ وكيف للمراقبين أن يثقوا فى أن إسقاط السلاح لداعش من طائرات التحالف المفترض أنها فى مهمة ضربه كان بالخطأ؟ لاحظ، أيضاً، أن داعش يدعو المسلمين المقيمين فى الغرب إلى المغادرة والمجيئ للعيش فى دولة الخلافة التى أسسها، وكان التخلص من المسلمين واحداً من أكبر أحلام غلاة اليمين فى الغرب التى لم يعرفوا كيف يحققونها، وها هو داعش يطرح أول تصور عملى لحلمهم! كما كانت هناك أحلام أخرى باستنزاف الدول العربية والإسلامية فى صراعات داخلية، وهو ما يحققه داعش هذه الأيام! كما طرح الغرب خططاً بإعادة رسم حدود المنطقة، وهو ما ينجزه داعش على الأرض! كما أضاف خدمات أخرى بتشويه صورة الإسلام والمسلمين بما عجز الأعداء عن فعله عبر قرون، وهذه أيضاً لها استقبال طيب لدى فئات نافذة فى المجتمعات الغربية! هناك حقيقتان واضحتان تُستخلَص منهما نتيجة مهمة: فأما الحقيقة الأولى، فهى أن الغرب بقيادة أمريكا ليس جاداً فى إدعائه بمحاربة داعش، بل إنه ليس فى مصلحته أن يقضى عليه، بل إن وجود داعش عند مستوى معين يحقق مصالح مهمة للغرب! والحقيقة الثانية، تتعارض مع الأولى، وهى أن الدول العربية والإسلامية هى الخاسر الأكبر من داعش، وقد تبين أن هذه سياسة ثابته لداعش لم ولن يغيرها، بما يعنى أنه يجب القضاء عليه، كقيادة وكتنظيم، مع مواربة الباب لدمج أعضائه فى الأطر الرسمية! وأما النتيجة المنطقية التى تترتب على كل هذا، وما دام أن المصالح صارت متعارضة مع الغرب، فهى أن لا يتورط العرب والمسلمون فى مسرحية الحرب التى تقودها أمريكا، لأنها تستنزفهم دون أن تحقق لهم مصالح حقيقية، بل المطلوب بشكل عاجل أن يكون للعرب والمسلمين خطتهم المستقلة عن الغرب فى محاربة داعش، بما يحقق أغراضهم، وإنْ كان هذا تصوراً نظرياً يدخل فى باب الأمنيات!