بريطانيا تقف علي أطراف أصابعها، تعيش حالة من التخبط عقب الزلزال السياسي الذي ضربها بفوز جيرمي كوربين، النائب اليساري الراديكالي، برئاسة حزب العمال، ثاني أقوي حزب في البلاد، خلفاً لإد ميليباند، في خطوة لها وقعها الكبير علي السياستين الداخلية والخارجية للمملكة المتحدة، الأمر الذي يثير عدة تساؤلات حول الموقف البريطاني من قضايا الشرق الأوسط، كما يطرح تساؤلات حول جدية برنامجه الاقتصادي الرافض لسياسة التقشف، بخلاف ما يثيره مشروع "كلاريون" الأمريكي الذي يتعقب الإرهاب، عن صلة كوربين بالجماعات الإسلامية المتطرفة وقادتها. يشكل فوز كوربين، نصراً جديداً لليسار الذي يسطر لحقبة جديدة من الوجود السياسي المؤثر في مراكز القرار في أوروبا، الأمر الذي يفسر ردة الفعل الغاضبة التي قوبل بها الإعلان عن فوز كوربين خوفاً من أن يصبح رئيساً للوزراء عام 2020، الانتخابات العامة القادمة، وعكس هذا القلق تدوينة رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرون"، علي فيسبوك، التي جاء فيها "حزب العمال يمثل الآن تهديداً لأمننا القومي والاقتصادي ". وهز تصاعد شعبية كوربين حزب العمال بشدة حتي أن هناك عدداً من الأسماء النافذة داخل الحزب علي غرار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق"توني بلير" وسلفه "جوردون براون" و"بيتر مندلسون" هو المفوض التجاري الأوروبي السابق، والسكرتير الأول لبريطانيا، حاولوا إسقاطه تحت ذريعة أن هذا الرجل سيأخذ الحزب إلي حتفه، ولكن تصريحاته ومواقفه تجاه عدد من القضايا الداخلية والخارجية، عززت من دعم مؤيديه له خاصة وسط الشباب واليسار البريطاني. وكان كوربين قد صرح في وقت سابق عزمه تقديم اعتذار عن تدخل البريطانيين في العراق، وأن الوقت حان لكي يقدم حزب العمال اعتذاراته للشعب البريطاني لأنه جره إلي الحرب في العراق مستنداً إلي خدعة، وللشعب العراقي علي العذابات التي ساهم في إلحاقها به. إلي حد الآن، تبدو مواقف كوربين مثالية وبعيدة عن الواقع، كما وصفها بلير لكن ذلك لا يلغي أهمية أن يولي العالم اهتماماً خاصاً بظاهرة هذا الزعيم اليساري، وفق "آدم تايلور"، المحلل السياسي في واشنطن بوست، لأن مواقف كوربين تحرك المخاوف العالمية الكبيرة حول القوة العسكرية والسياسة الخارجية والاقتصاد والتاريخ. وكان كوربين المناهض للحرب والملكية، بحسب وصف الصحف البريطانية له، قد واجه انتقادات شديدة، نشرت في صدر صحفها صوراً له وهو يقف صامتاً بينما ردد الحضور حوله النشيد الوطني خلال مراسم بكاتدرائية سانت بول، خلال مراسم دينية لإحياء الذكري الخامسة والسبعين لهجمات ألمانيا النازية الجوية علي بريطانيا. وقال كوربين لشبكة الBBC إنها مناسبة تتسم بالاحترام وذكر أنه كان يفكر في والديه اللذين كانا في لندن خلال الحرب وعملا كمراقبين للغارات الجوية. وحين سعي المحاور للحصول علي سبب محدد، ليقول ما إذا كان سيردد النشيد الوطني في مناسبات قادمة لم يقدم كوربين جواباً صريحاً وقال إنه سيحضر مناسبات عدة وسيشارك بقوة. المهم هو احتفالهم بذكري معركة بريطانيا وأن يكون حاضراً. ومع الضجة التي أحدثها فوزه حاول العديد من الصحف العالمية بخاصة العربية، فهم هذا الرجل واتجاهاته السياسية وإلي من ينتمي هل حقاً مع قضايا الشرق الأوسط والمنطقة العربية أما أنه رجل يحاول أن يكسب أصواتاً وزعامة بالسير عكس السياسة الأمريكية؟. وفي تغطيتها للموضوع، وصفت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية كوربين، البالغ من العمر 66 عاما ب"معلم جغرافيا شارف علي التقاعد في عصر يبدو فيه الزعماء البريطانيون صغار السن نسبياً ومدللين". وبعكس ما تم تداوله في عدة صحف ومواقع عالمية، إلا أن موقع كلاريون ومعهد جيت ستون الأمريكيين، ووفقاً للتحقيق الذي أجراه "إليوت فريدلاند" خبير الإسلام السياسي بالموقع، فإن بجانب كل سياسات الإصلاح الاقتصادي التي يريد أن يتخذها كوربين من إنهاء التقشف ورفع الحد الأدني للأجور وزيادة الضرائب علي من يزيد دخلهم السنوي علي مليون جنيه استرليني لتصل إلي 75%. إلا أن سياسته في القضايا الخارجية تثير القلق خاصة بعدما أعلن عن ضرورة "الحوار" مع الجماعات المتشددة لتحقيق السلام والتوقف عن الضربات الجوية ضد تنظيم داعش. كما أنه دعا إلي إشراك حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحزب الله اللبناني في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط. وكشف "فريدلاند" عن أن رئيس حزب العمال الجديد بني علاقات مع الإسلاميين في لندن؛ حتي من داعمهم، مثل "جورج جالاوي" النائب البريطاني الذي تربطه صلة بقادة حركة حماس وعلي رأسهم "إسماعيل هنية". وفي يوليو الماضي، ظهرت ارتباطات ومصالح تجمع بينه وبين "إبراهيم هيويت" واعظ إسلامي متشدد ورئيس مؤسسة خيرية تدعي "إنتربال" Interpal وهي منظمة واجهة تابعة ل "حماس" ومدرجة علي لائحة الولاياتالمتحدة للإرهاب عام 2003، جنباً إلي جنب مع العديد من قيادات حماس والجمعيات الخيرية التي تدعمها في أوروبا. وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد وصفت "إنتربال" بأنها "منظمة خيرية رئيسية تستخدم لإخفاء تدفق الأموال إلي الحركة- فرع الإخوان المسلمين في فلسطين التي تدير قطاع غزة. فيما وصف كوربين، هيويت بأنه "صديق مقرب ووفي". ويمضي "فريدلاند" في الكشف عن الاتصال المباشر الذي تم بين كوربين وحماس والمؤسسة الخيرية التي رفض رئيس حزب العمال الجديد وصفها بأنها "منظمة إرهابية"، الذي رآه خطأ فادحا وتاريخيا ودعا الحكومة إلي مراجعة موقفها حول هذا الأمر والبدء بالحوار المباشر مع حماس ومع حزب الله، هذه هي الطريقة الوحيدة نحو تحقيق السلام، مع من وصفهم ب"الأصدقاء". كما أجري اتصالات مباشرة مع أعضاء التنظيم الدولي للإخوان المسلمين في لندن. في عام 2009، وقال النائب العمالي آنذاك كوربين: "إنه سيكون من دواعي سروري وشرف لي استضافة هذا الحدث في البرلمان، لأن أصدقاءنا من حزب الله وحماس سيتحدثون". وأشاد مسؤولو حماس بكوربين ووصفوه ب"رجل الضمير" بعد أن علموا بأنه مقدم علي خوض الانتخابات وأثناء استطلاعات الرأي، وحينها ظل رئيس الحزب الجديد يدافع عن أسلوبه في استخدام كلمة "أصدقاء"، علي القناة الرابعة الإخبارية اللندنية. في مقابلة مع قناة "روسيا اليوم"، قارن كوربين تصرفات الدولة الإسلامية بما تفعله القوات الأمريكية. وقال عن الفظائع التي تقوم بها "داعش"، إنها وحشية، وإن ما يقومون به مروع للغاية، ولكن مثلما فعله الأمريكان في الفلوجة وغيرها من الأماكن". فقد أثار كوربين الشهر الماضي عاصفة من ردود الأفعال حين كتب يصف اغتيال زعيم تنظيم القاعدة السابق "أسامة بن لادن" من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية علي أنه "مأساة". ووفقاً لمشروع كلاريون، فإن كل ما يقوم به كوربين ما هو إلا رؤية أي الجوانب تقف الولاياتالمتحدة حيال أي صراع ثم السير عكس اتجاهها باتخاذ الموقف المضاد. ولا يخفي رئيس حزب العمال الجديد معارضته لسياسة الولاياتالمتحدة؛ حيث عارض التدخل في أوكرانيا، وقال إن "محاولة الناتو تطويق روسيا هي واحدة من التهديدات الكبري في عصرنا". ويكن كوربين إعجابه بالمرشد الأعلي للجمهورية الإسلامية الإيرانية "علي خامنئي"، لأن دولته ونظامها يقفون ضد الولاياتالمتحدة. كما أن لا يعارض امتلاك الدول للأسلحة النووية، وليست لديه مشكلة في الترسانة النووية الروسية والصينية وطموحات إيران. وفي المقابل، يدعو كوربين لنزع التسليح النووي أحادي الجانب بالنسبة للمملكة المتحدة لأنها أكبر حليف للولايات المتحدة داخل القارة العجوز. ويبقي سؤال هام ماذا سيفعل كوربين في ملفات لاتزال معلقة مثل نتائج تحقيق حول الإخوان وأنشطتهم التي أجريت العام الماضي ولم تعلن نتائجها حتي الآن، مع وجود صلات تجمعه بهم؟ وليس هو فقط، بل تمتلك بريطانيا صلات قوية بالإخوان المسلمين التي بدأت في تمويلها قبل عام 1942، بهدف إبقاء دول الشرق الأوسط في صراعات دائمة واستغلال موارد هذه الدول من النفط وتحقيق أهدافها في السياسية الخارجية. وتري صحيفة " فايننشيال تايمز" أن لندن عاصمة تجذب الإسلام السياسي ونشطاءه وقياداته الملاحقين قضائياً وأمنياً نظراً لعدم وجود اتفاقية لتسليم المطلوبين مع بعض الدول العربية مثل مصر، كما أن القوانين البريطانية لا تفرض قيودا علي حرية التعبير وتسمح بإنشاء المحطات التليفزيونية والصحف، ومن ثم تحولها إلي أهم مركز دولي داعم لتنظيم الإخوان. ورغم أنه يبدو من غير الواضح تماماً ما إذا كان كوربين سيصبح مجرد ظاهرة تمثل مستقبل بريطانيا أم لا، وتغيير مواقفها تجاه مايحدث في الشرق الأوسط، أم أن كوربين سيمضي باستكمال أحلامهم في المنطقة ويظهر الوجه الآخر. وكما أشار كريس دويل، مدير مجلس "الحوار العربي البريطاني، تعد رئاسة كوربين للحزب في حد ذاتها تغيراً كبيراً، إذ لم يكن أحد يتوقع أن هذا الرجل البسيط سينجح في هذه المهمة الصعبة. ولكن تبقي الأسئلة مطروحة هل سيتمكن من الوصول إلي رئاسة الوزراء أيضاً في انتخابات 2020 وهل سيستطيع فرض آرائه داخل مجلس العموم البريطاني وداخل حزبه؟.