عادة الإخوان المراوغة واللعب علي كل الأحبال. أخبار الصراعات المتصاعدة داخل التنظيم وتناحر قادته، وعلي صدقية ومنطقية معظمها، لا تنفي لعب بعض الرؤوس الكبيرة في الجماعة علي وتر تقسيم الأدوار، سواء كان ذلك موجهًا كاستراتيجية وسياسة عمل، أو حتي اقتناصًا لفرصة عابرة، بينما الهدف الأكبر يبقي الدفع في اتجاه إجبار الدولة علي صفقة للمصالحة، عبر ترهيبها وتخييرها بين فصيل إخواني ينتهج العنف وآخر قادر علي إلجامه، فيما تتصاعد بعض التحركات الإقليمية بالتنسيق مع التنظيم الدولي صوب المراد نفسه.. السؤال، لماذا تبرع قيادي الإخوان الهارب، جمال حشمت، فجأة، بالإقرار بوجود خلاف داخلي في الإخوان، وأن هناك محاولات للحل.. الأمر، كما يقول الباحث في شؤون الجماعة، أحمد بان، ليس من باب الاعتراف بالحق والرغبة في إعلاء الشفافية، وإنما أقرب للرسائل لمن يهمه الأمر سواء داخل الجماعة أو خارجها. وبقدر دبلوماسية حشمت المصطنعة، بقدر ما كان زميله عمرو دراج، أكثر وضوحًا، ليصبح أول قيادي إخواني يعترف صراحة بوجود كيانات مثيرة للجدل ومحرضة علي العنف، وربما تنتهج الفكر الداعشي التكفيري ضمن صفوف التنظيم، وفي مقدمتها اللجنة المركزية لشباب الإخوان المصرة علي المواجهة المفتوحة مع السلطة، واللجنة الشرعية التي جعلت من المعركة مع الأخيرة فرض عين علي كل مسلم، عبر صك أسانيد شرعية لا تختلف عن تلك التي يسوقها تنظيم الدولة الإسلامية. لمن لا يعلم يقول البيان المنسوب ل"الهيئة الشرعية لجماعة الإخوان"، وهو متداول علي نحو كبير إعلاميًا وفي فضاء السوشيال ميديا منذ فترة نصًا: إن "الهيئة الشرعية تصدر هذا البيان من باب الإعذار إلي الله، وخروجا من كتم الحق، وإظهارا لبعض الحقائق التي قد تكون غائبة عن بعض الصف، فقد كلفت الهيئة الشرعية من قبل الإدارة بعمل دراسة للتأصيل الشرعي للعمل الثوري، وذلك بناء علي طلب الصف في بيان الوصف الشرعي أولا، والحكم الشرعي ثانيا، لهؤلاء الانقلابيين (علي حد تعبير البيان)، وماذا بعد الحكم؟". وتابع "فقد عكفت الهيئة عدة شهور متواصلة حتي أخرجت هذه الدراسة، التي ملخصها في عدة نقاط". النقاط المشار إليها تضمنت جملا وعبارات وانحيازات فقهية وسياسية واضحة، تصب جميعها في طريق صب مزيد من الزيت علي النيران المشتعلة، وفي طريق تحويل شباب الجماعة إلي عناصر تقدس العنف باعتباره المخلص الوحيد لمحنتها، ومنها: "الحاكم الذي جاء بغير طريق شرعي من انتخاب حر مباشر، لا شرعية له، ولا ينطبق عليه وصف الحاكم المتغلب، وأصلنا لذلك بالكتاب والسنة القولية والعملية والفقه، والوثيقة التي اعتمدها الأزهر الشريف بشيخه الحالي". "إن الحكم الشرعي فيهم (مسؤولو الدولة الحاليون): هو وجوب المقاومة، بكل أشكالها وأنواعها، لأنها فطرة، وحق، وواجب شرعي، وبها تتحقق سنة التدافع التي بدونها تفسد الأرض، وقلنا: إن المقاومة بدايتها إحداث للنكايات وإن قلت الإمكانات، ثم بعد ذلك توازن الخوف والرعب، ثم بعد ذلك النزال والحسم، وأصلنا لذلك من الكتاب والسنة والفقه". "قرأنا هذه الدراسة كلمة كلمة أمام الإدارة، واعتمدتها، ونزلت لجميع الإخوة والأخوات، فاستحسنوها، وأقروها، وكانت سببا في قوة الصف وتماسكه، ورفعت الروح المعنوية له، فكان أداؤه رائعا في موجة 25 يناير الماضي". وفق قيادي الإخوان المنشق، سامح عيد، فإنه يلاحظ في النقطة السابقة أن هناك تأكيدًا علي علم قادة التنظيم بذلك التأصيل الشرعي وعدم اعتراضهم عليه، ومن ثم السماح بتطبيقه، وهو ما أكدت عليه النقطة التالية أيضًا، التي تقول "هذه الدراسة أصبحت ملكا لجميع الإخوان، وليس من حق شخص أو مجموعة معينة إلغاؤها، لأنها جاءت عميقة في بابها، وأقرت بطريقة مؤسسية في أعلي درجات الشفافية".. وفي موضوع آخر: "تهيب الهيئة بالإخوة المنتخبين من مسئولي القطاعات أن يكونوا علي قدر المسئولية، وأن يحافظوا علي صفهم، وأن يشرعوا في الإجراءات المناسبة للظرف الحالي". يقول سامح عيد، إن الحكمة وتجارب التاريخ تقطع بأن كلام قادة الإخوان دومًا عن هوي وهدف مبطن وبرجماتية شديدة، وهو ما ينطبق علي كلام دراج، الذي يثير سؤالا حرجًا عن سر التضخيم البادي من جانب التنظيم لشطط جناحه الشاب، الموالي بالكلية علي ما يبدو لفريق مكتب إرشاد إدارة الأزمة المنتخب في فبراير 2014، بقيادة محمد طه وهدان، الذي يرفع شعار التصعيد التام مع الدولة حتي إسقاطها. وظهرت اللجنة المركزية لشباب الإخوان التي أشار إليها دراج، لأول مرة رسميًا، فقط للرد علي من بات يعرف نفسه حاليًا بنائب المرشد، وهو قيادي التنظيم الدولي، إبراهيم منير، الذي يتولي حاليًا لواء الهجوم علي مكتب إرشاد فبراير 2014، حيث قال صراحة إن "الجماعة لم تجر انتخابات داخلية علي كافة المستويات، وإنما قامت باستكمال كل أمورها الإدارية وهياكلها التنظيمية"، في إشارة واضحة منه إلي عدم شرعية "مكتب إدارة الأزمة بقيادة محمد طه وهدان، قبل أن يصب جام غضبه علي شباب التنظيم المطالب برفع راية التصعيد والمواجهة الثورية/ العنيفة مع الدولة، والداعي للإطاحة بالقيادات القديمة، مشبهًا أنصار هذا الاتجاه ب"مجموعة شباب محمد" التي خرجت علي الإمام حسن البنا، بزعم أنه يهادن النظام، ولا يلجأ معه إلي العنف. وعلي الفور رد بيان منسوب إلي "لجنة الشباب المركزية بجماعة الإخوان"، التابعة علي ما يبدو لمكتب إرشاد فبراير 2014، علي تصريحات منير العنيفة، بنبرة أكثر عنفًا، حيث جاء فيه أن منير المقيم بالعاصمة البريطانية لندن، هو مجرد عضو بالجماعة وليس نائبا للمرشد، وتابع "لقد هالنا ما ذكره الأخ الكبير، في حوار صحفي، بنفيه إجراء انتخابات داخلية في الجماعة، رغم تأكيده بالصوت والصورة في حوار تليفزيوني سابق في منتصف العام الماضي إجراءها، وكذلك تشبيهه للمؤمنين بالثورة داخل الجماعة بمجموعة شباب محمد التي انشقت عن الجماعة قديما". البيان تابع هجومه علي منير: "أساء لنا وللجماعة ما صرح به بأن (الجماعة لم تصل بعد إلي محطة أو نهاية تسمح لنا بتسجيل ونشر المراجعات بصورة فيها تمحيص)، علي الرغم من ضرورة المراجعة والتقييم، في الوقت الذي شكلت فيه الجماعة بالفعل لجنة في النصف الأول من العام الجاري لعمل بحث واستبيان موسع لمواقف وأوضاع الجماعة السياسية والفكرية والتنظيمية في الفترة بين يناير 2011 ومارس 2015، وشارك في عمل هذه اللجنة إخوة كبار استشهدوا مؤخرا في عمليات اغتيال نفذتها سلطات الانقلاب ضدهم". البيان شدد أيضًا علي أنه "من المستغرب في حديثه ما أعلنه عن تعيينه نائبا للمرشد خلفا للمجاهد جمعة أمين، نائب المرشد، الذي توفاه الله بالخارج عقب الانقلاب، دون أن يوضح الجهة التي اختارته وآليات اختياره، أو اللائحة التي اختير علي أساسها، وفي هذا افتئات علي قواعد الجماعة المنظمة لها ومجلس الشوري وهياكل الجماعة المنتخبة، قبل أن يجزم البيان بأن ما صدر عن منير يعد "سقطة تسيء للجماعة". وكما انفردت "آخر ساعة" في عددها السابق، بوجود عدة أجنحة أو إن تحرينا الدقة عدة جماعات متناحرة في الإخوان في الوقت الراهن، فإن فريق مكتب إرشاد فبراير 2014، علي خلاف تكتيكي واضح مع فريق مكتب الإرشاد القديم، بقيادة الهاربين محمود عزت ومحمود حسين، وحليفهم في الذراع الدولية، إبراهيم منير، حيث يرفعون شعار "السلمية الموجعة"، في وجه نظام ما بعد 30 يونيو 2013، فيما تبدو تحركاتهم وبياناتهم أقرب للعقلية الحاكمة للإخوان طيلة العقدين الأخيرين، التي طالما سعت لوجود تفاهمات مع السلطة في الكواليس لضمان البقاء في المشهد السياسي. نائب المرشد الأسبق، الدكتور محمد حبيب، يري أن اللعبة التي تراهن عليها الجماعة في تلك اللحظة الحرجة في تاريخها، هو الانقسام الإخواني الإخواني الداخلي، فمن لا تزال أوراق اللعبة في يديه داخل التنظيم، وخاصة ما يتعلق بالإنفاق والماليات، وهو علي الأرجح من تيار جماعة مكتب الإرشاد القديم، يذكي تلك الانقسامات وينفخ فيها، بل ويتولي بنفسه نشر وتأكيد التفزيعات المنسوبة لجماعة التصعيد/ مكتب إرشاد 2014، ليجبر الدولة علي الرضوخ لطلباته الخاصة، ومن ثم قبول مصالحة مع التنظيم تحاشيًا لسموم ودعاوي العنف والإرهاب المتصاعد بين القواعد الشبابية.. علي هذا النحو، فإن تضخيم أحاديث وتحليلات عن إمكانية أن يلعب أبو العلا ماضي دور الوسيط بين السلطة والإخوان، رغم أن الإفراج عنه جاء لأسباب قانونية بحتة تتعلق بانقضاء فترة الحبس الاحتياطي الخاصة به كليًا، وليس لأسباب سياسية، وما ينشر عن مبايعة كتائب نوعية ضئيلة العدد لداعش، هي جميعا تصب في صالح تضخيم أدوات فريق الضغط علي النظام، وإن ظل القرار في هذا الشأن علي أية حال في يد الأخير وفي يد صانعي القرار فيه، وفي مدي احتمالهم للضغوطات الدولية والإقليمية الممارسة ضده دعمًا للجماعة.