جاليرى سمرقند فىالحى اللاتينى بباريس يَمُر مجموعة من الأصدقاء الفرنسيين بجوار جاليري "دافيد" في أحد شوارع باريس. أحدهم يلفت نظره تمثال فرعوني متوسط الحجم معروض داخل "فاترينة" الجاليري. يتوقف مع أصدقائه برهة، قبل أن يقرروا الولوج إلي الداخل. تستقبلهم سيدة خمسينية تقدم نفسها لهم باعتبارها مديرة الجاليري. يدور نقاش سريع تعرفهم بمزيد من القطع الأثرية المتاحة، شارحة أهميتها التاريخية، فيزداد الشاب الفرنسي تعلقاً بالتمثال الذي أعجبه في "فاترينة" العرض. فالسعر مناسب والقيمة الفنية والتاريخية عالية. يسدد قيمته بينما تعرض عليه مديرة الجاليري خدمة التوصيل إلي المنزل بإضافة رسوم بسيطة. يوافق وبعد ساعات يقبع التمثال الفرعوني في أحد أركان منزله. تبدو القصة غريبة وعصية علي التصديق، لكنها الحقيقة المؤلمة التي يعصب المسؤولون في مصر أعينهم كي لا يروها، وتتجاوز الحقيقة هذا المشهد الدراماتيكي إلي فضاء واسع تزدحم فيه حكايات تهريب الآثار المصرية، وعبورها خارج الحدود لتستقر في محال تجارية مخصصة لبيع آثار العالم وعلي رأسها بالطبع الآثار المصرية الفرعونية. صديقي الفنان المصري المُقيم في فرنسا منذ 24 عاماً، هشام جاد، كشف لي المأساة التي يعيشها أجدادنا من ملوك الفراعنة، حين أماط اللثام عن أسرار وكواليس بيع الآثار المصرية في شوارع باريس، وعبر مزادات في "جاليرهات" معروفة، لها مواقع علي شبكة الإنترنت، تسهل علي زبائنها من الجنسيات كافة، الحصول علي المعروضات من خلال خدمة "هوم ديليفاري" أو التوصيل إلي المنازل! مصريون كُثر يعيشون في فرنسا، تزعجهم رؤية قطع أثرية من تاريخ أجدادهم معروضة علي الملأ في صالات باريس وأمام المارة علي الأرصفة، وبهذه الطريقة المهينة، التي تسيئ إلي كل مصري وتاريخ بلاده القديم، لكن هشام جاد مولع بالحضارة والتاريخ، علي الرغم من ضيق وقته نظراً لانشغاله بتدريس وعزف آلات الإيقاع، وكذا تصميم دُمي الماريونيت، بخلاف موهبته في الغناء التي أهلته لتقديم حفلات عديدة في العاصمة الفرنسية يشدو فيها أغاني سيد درويش والشيخ إمام عيسي. "أمر محزن أن تكون في الغربة وتري ميراث أجدادك يُباع في المحلات كأي سلعة". قالها جاد بأسي، لكنه في الوقت ذاته يشدد علي أنه لا ييأس مطلقاً في كشف ملامح هذه التجارة الرائجة في باريس، التي يباع ويشتري فيها تاريخ المصريين، وليس هذا فحسب بل كان صاحب الفضل في لفت الأنظار، قبل نحو عامين، إلي تمثال يجسد شامبليون واضعاً إحدي قدميه علي رأس ملك فرعوني يُعتقد إنها للإله إخناتون. هذا التمثال الذي نحته المثال العالمي الراحل أوجست بيرتولدي ويقبع منذ سنوات طويلة في ساحة جامعة السوربون، ورغم تصوير جاد مقطع فيديو مصحوب بتعليق صوتي يوضح فيه مدي إهانة هذا التمثال للتاريخ المصري، وانتشار هذا الفيديو علي نطاق واسع، ووصول هذا الأمر إلي الجهات المسؤولة في البلدين لم يحرك أحد ساكناً. يواصل هشام جاد تصريحاته ل"آخرساعة": أول مرة رأيت قطع آثار أجدادي الفراعنة كانت في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في أحد الجاليريهات التي تبيع الآثار المصرية القديمة في باريس، وقتها احتد النقاش بيني وبين صاحب الجاليري، حينما سألته من أعطاك الحق في سرقة وبيع تاريخ ومعارف أهلي الذين أمضوا قروناً طويلة لاكتشافها وتقديمها للإنسانية؟ فقال لي (بالفرنسية): إنت مين ومن يثبت لي أنك مصري؟ فأخرجت له بطاقة الإقامة الفرنسية والمدوّن فيها جنسيتي المصرية. فرد قائلاً: لكنك غير مخوّل للحديث عن الشعب المصري ولم يفوضك أحد، وكل الآثار الموجودة عندي اشتريتها وأوراقها عندي، وطبعاً رفض أن يطلعني علي شيء. ويؤكد الفنان المصري أن الحي السادس في باريس يعد أهم الأحياء الفرنسية التي تتواجد فيها مثل هذه الجاليريهات، كما توجد أيضاً صالات عرض تُقام فيها أحياناً مزادات لبيع القطع المصرية الأثرية مثل الصالة الشهيرة الموجودة في «باريس 6» لكن في الأغلب الأعم تُباع الآثار في جاليريهات وصالات عرض، وهذا لا يمنع وجود بعض البائعين من جنسيات مختلفة تقف في محيط هذه الأماكن لاصطياد الزبائن وتقديم نفس البضاعه تقريباً، إلا أنك لا تكون متأكداً إذا كانت القطع الأثرية أصلية أم "مقلدة"، فعندما تشتري قطعة ما من جاليري معروف يعطي لك ما يثبت أنها أصلية. هناك أماكن مختلفة تباع فيها آثار مصر في مزادات لمن يدفع أكثر، أما الجاليريهات أو صالات العرض التي قمت بزيارتها بنفسي فلا تعقد مثل هذه المزادات علي القطع الأثرية، بل تعرضها في فتارين، مثلما هو الحال في جاليري دافيد "Galerie David Ghezelbash" الواقع في 12 شارع يعقوب بمنطقة «باريس 6» كما تضع ملصقات دعائية في الشوارع توضح فيه ما لديها من قطع أثرية نادرة. تأمين المكان أمر مهم كونه يحوي قطعاً أثرية، وجاليري دافيد علي سبيل المثال يعتمد إجراءات أمنية صارمة، فثمة كاميرات مراقبة من الداخل والخارج، وأبوابه مغلقة ولا يتم فتحها للزبون إلا بعد حديث أحد العاملين بالجاليري معه عبر ميكروفون وليس بطريقة مباشرة، وبناء علي هذا الحوار السريع ومتابعة عامل الجاليري لهيئة الزبون من خلال إحدي كاميرات المراقبة يقرر السماح له بالدخول أو الاعتذار له دون إبداء أسباب. هشام الذي نجح في الدخول إلي هذا الجاليري، يقول إنه اعتمد علي هيئته الغربية وشعره الطويل وكذا لغته الفرنسية الجيدة، وهناك التقي مديرة الجاليري التي شرحت له قيمة كل قطعة وسعرها والحقبة التاريخية التي تنتمي إليها، وأعطته "كتالوج" يوضح بعض التفاصيل عن أبعاد القطعة مثل الطول والعرض والارتفاع ونوع المادة المصنوعة منها.. إلخ، ولكن طبعاً لا يذكر الكتالوج أي معلومات عن كيفية وصول هذه القطع الأثرية إلي فرنسا، أما الأغرب فكان وجود موقع للجاليري علي شبكة الإنترنت متاحة عليه كل هذه التفاصيل، لتسهيل المهمة للزبائن علي اختلاف جنسياتهم الذي يعشقون الآثار الفرعونية. يقبل الفرنسيون والأجانب من جنسيات مختلفة من طبقة الأثرياء علي شراء هذه القطع النادرة، وعلمت من بعض الصالات التي دخلتها أنها تمنح المشتري "وثيقة بيع" تتضمن توقيعات خبراء متخصصين في مجال الآثار، بما يثبت أنها قطعة أصلية وليست مقلدة، ويوضح هشام: "يحدث ذلك تماماً مثلما تشتري لوحة لبيكاسو أو فان جوخ.. لابد من خبير أو أكثر لتأكيد أن هذا العمل أصلي وليس فالصو". إحدي القطع - علي حسب قول هشام كانت معروضة في واحدة من هذه الصالات قبل عدة أشهر بسعر 300 ألف يورو، وهي الآن غير موجودة في الصالة، ما يعني أنه تم بيعها. ويحكي الفنان المصري قصته مع جاليري دافيد قائلاً: ذات مرة كنت أتجول مع أصدقائي في الحي اللاتيني في باريس ولفت نظري ملصق دعائي لأحد الجاليريهات يعرض صورة لنحت فرعوني قديم، فقرأت التفاصيل ودوّنت العنوان، وفي اليوم التالي ذهبت إلي الجاليري، حيث لفت نظري أن بابه مغلق رغم وجود بعض العاملين والزوار بداخله. يتابع: طرقت الباب ففتحت لي سيدة تعمل في الجاليري ورحبت بي، ثم سألتني عن سبب الزيارة، فقلت لها بخصوص معرض الفرعونيات الموجود لديكم، فأدخلتني بأدب وأغلقت الباب، وبدأت أتجول في أرجاء القاعة وأتابع القطع الفرعونية المبهرة. اقتربت مني نفس السيدة وسألتني عما إذا كان شيئاً قد أعجبني أو لدي أي استفسار بشأن أي من القطع المعروضة، فقلت لها الأعمال رائعة ونادرة.. هل هي للعرض فقط أم للبيع؟ فقالت: "بالطبع هي للبيع"، فطلبت منها قائمة الأسعار فجاءت بها، ثم سألتها هل يوجد "كتالوج" بالأعمال، فقالت يوجد ولكن للبيع بسعر 40 يورو، فأشتريته، ثم أخبرتني أن للجاليري فروعا أخري في فرنسا وأيضاً في بلجيكا وأمريكا، وتحققت من صحة ذلك لاحقاً عندما زرت عنوانهم علي الإنترنت. لم يكتف هشام جاد بهذا الجاليري، بل قرر اقتفاء أثر القطع المصرية الهاربة إلي فرنسا، وبالفعل اكتشف جاليري آخر اسمه "سمرقند" يقع أيضاً في الحي اللاتيني، ولاحظت أن معظم زبائنه من الفرنسيين وجنسيات أوروبية مختلفة وأمريكان. حين سألت هشام: "هل تعتقد أن من بين زبائن هذه الجاليرهات يهوداً أو إسرائيليين؟" قال: لا أستطيع الجزم هل يوجد بينهم يهود أم لا، لأن الكثير من اليهود الأوروبيين لا يضعون علي رؤوسهم طاقية القلنصوة اليهودية، لكن جاليري دافيد واضح من اسمه.. وكما يقول المثل "الجواب يبان من عنوانه". عدة أمور أخري أثارت دهشة هشام جاد أثناء تجوله داخل هذه الجاليريهات، من بينها وجود قطع كبيرة الحجم، وذات أوزان ثقيلة، وكذا توابيت فرعونية ضخمة، يقول :"أتعجب.. كيف تم نقل هذه القطعة الكبيرة من مصر إلي فرنسا، وكيف تم تهريبها من مصر بالأساس" ! انتهت جولة "آخرساعة" مع صديقنا الفنان المصري هشام جاد، وبقي السؤال: إلي متي ستقف الحكومة المصرية مكتوفة الأيدي، معصوبة العين عن كل هذه التجاوزات التي يتعرض لها تاريخنا وحضارتنا وتراثنا الإنساني.. أمر محزن أن نتابع علي الملأ بيع تاريخ أجدادنا بل وأجسادهم "المومياوات" في صالات بيع أو علي أرصفة شوارع أوروبا ونحن صامتون.