ثمة وجع يطعن قلبك حين تزور المخيمات في لبنان، لا لأنها تُجسد وطنين أحدهما مُحتل من العدو الصهيوني وآخر يشهد حربا دمرت مدنه وشرد مواطنوه، بل لأنها تذكرك بمصر، حيث حياة تشبه حياة العشوائيات، وحضور طاغ للهوية. كأن الهوية تشتد عند الإنسان حين يصبح فقيراً ومريضاً وغريباً. وجدتني في مصر مع اختلاف اللهجة والأرض. رددت: "في وطني مخيمات.. وفي لبنان عشوائيات". اختلط عليّ الأمر. غرف متراصة، عشش، أزقة تشبه السراديب، ولون رمادي يكسو البيوت والوجوه والقلوب. غصة انتابتني وأنا أري بعيني ثلاثة أوطان في بلد عربي واحد. الآن أنت في مصر وفلسطينوسورياولبنان في شاتيلا.. نكبة مستمرة.. وأزقة تتسع لكل النازحين من بيروت أخذت «تاكسي» دون أن أحدد إلي أي مخيم سأذهب. سألت السائق الذي يُدعي ملحم: أي المخيمات أحق بالزيارة؟ أخبرني أنه يكفي زيارة مخيم واحد فقط، وأن أقوم بجولة واحدة فقط، لمرة واحدة فقط، لأعرف مايعاني منه اللاجئون من ظروف صعبة. ملحم الذي يستمع إلي الفنان زياد الرحباني وهو يشدو: " اسمع اسمع يا رضا.. كلشي عم يغلا ويزيد.. امبارح كنا عالحديدة وهلأ صرنا عالحديد"، اشتكي من الزمن الذي يكرر نفسه، ومن زياد الذي يتنبأ بما يعاصرونه الآن، يقول: "لا تتعجب إن لم تشعر بالهوية اللبنانية.. هنا يُعرف الإنسان نفسه: أنا سني.. أنا شيعي.. أنا مسيحي.. أنا تبع حزب الله". في سري صرحت: "لبنان بلا دولة وبلا هوية". حاول أن يخفف من الحالة التي سيطرت علينا وركز حديثه علي المخيمات، وحدد 12 مخيماً يعيش فيها اللاجئون الفلسطينيون منذ 15 مايو 1948، وهي: "عين الحلوة، البص، الرشيدية، برج الشمالي، نهر البارد، البداوي، شاتيلا، برج البراجنة، مار إلياس، ضبية، ويفل - الجليل، المئة ومية". اخترت شاتيلا، خصوصاً أنها الأقرب.. حيث تقع جنوب بيروت. ولأنها تضم عائلات فلسطينية قديمة منذ النكبة التي تحل هذا الشهر بالمصادفة ذكراها ال 66. ولأنها شهدت أبشع مجزرة ارتكبها الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع ميليشيات لبنانية في سبتمبر عام 1982، المعروفة بمجزرة "صبرا وشاتيلا"، والتي ذهب ضحيتها نحو 3500 مدني، معظمهم من الفلسطينيين، ولأنها أيضاً تضم عائلات من النازحين السوريين. رفض السائق التوغل في شاتيلا، وحذرني من شبيحة (بلطجية) يخطفون الصحفيين ويأخذونهم كرهائن، تركني علي باب المخيم، أمام جدار مرسوم عليه الطفل حنظلة، الذي يدير ظهره للعالم ويعقد يديه خلفه. حنظلة يعد بمثابة رمز للهوية الفلسطينية كما أنه يعتبر توقيعاً لرسام الكاريكاتير الفلسطيني الراحل ناجي العلي. توقفت لحظات لأتأمل حنظلة، وبجواره مكتوب: "علي هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ورسم لخريطة فلسطين دون احتلال أو تقسيم. لم أدر ظهري طويلاً إلي العالم والمخيم، توجهت إلي الداخل حيث صمت يسد المكان. وجدت صغاراً يشكلون من الطين بيوتاً وينسجون منه أحلامهم المبهمة. استقبلوني بحركات بهلوانية، بينما لوحت الفتيات بعلامة النصر. من علم هؤلاء الأطفال أن لهم وطناً وأنهم سينتصرون حتماً؟.. وجدتني فجأة أري المخيم من أعلي نقطة فيه - ميزة لبنان هي أنك تستطيع أن تري كل الأشياء مُجسدة من أعلي - شاهدت مباني طويلة، متراصة بعشوائية، يصل ارتفاع الكثير منها إلي ستة طوابق، تكسو سماء البيوت أسلاك كثيفة متشابكة، تشبه في تعقيدها قضايا الوطن العربي. في أي ركن سقط مفتاح العودة؟ ربما أضاعه أحد الصغار أو نسيه أحد الشيوخ، لكن الشباب هنا يبحثون عنه وعن ذكريات أرض البرتقال والزيتون. «سنعود ما دامت فلسطين حاضرة في ذاكرة الأجيال».. هكذا بدأ أحمد الشمسي حديثه، وهو قابع أمام منزله الصغير، وبجواره صورة للرئيس الفلسطيني الراحل أبوعمار. حرص الرجل علي أن يوضح أكثر من مرة أنهم مقيمون في لبنان، ولم يتخذوه وطناً بديلاً عن فلسطين. قال: "عُرضت علينا الجنسية اللبنانية لكننا رفضنا.. جئنا إلي هنا قسراً.. كانوا يقولون إننا سنعود إلي بلدنا بعد شهر أو شهرين، لكن هذه الأشهر امتدت وطالت، نرفض التوطين رفضاً قاطعاً.. نريد فقط بعضاً من حقوقنا كبشر.. نكبتنا مازالت مستمرة". يتذكر الرجل ونحن نمشي في أزقة المخيم حيث يصل الضوء خافتا حتي في وضح النهار، لضيق الممرات وتداخل المنازل، اليوم الذي ترك فيه حيفا وقتما كان عمره 13 عاماً، وبصوت متقطع ومنخفض تابع: " بعد سقوط عكا رحلنا حفاة مخلفين وراءنا كل شيء حتي الأمل، لم أنس هزيز الطائرات التي قصفتنا، وصوت جيش الإنقاذ يطلب منا النزوح لمدة أسبوعين، والنتيجة أننا نزحنا العمر كله"، مستكملاً: "لا أريد أن أموت كلاجئ.. هذه أمنيتي". لا شيء هنا يشبه فلسطين. لافتات فقط تدعو إلي لم الشمل وعدم الانقسام، وصور لرموز فلسطينية وشهداء، وكلمات حماسية تدعو للمقاومة والعودة، ورسومات علي الجدران تجعل الهوية حاضرة لا أكثر. هنا الفقر والمرض والحرمان والفوضي. رباعية قادرة علي أن تشغل أي إنسان عن قضيته الأساسية. ربما بسبب ذلك تمر أيام كثيرة دون أن تأتي غزة في حديث أحد اللاجئين. هذا الانطباع أكده لي فهد عبد الله، الشاب العشريني الذي عرف فلسطين من حكايات أجداده، يخبرني أن شاتيلا كباقي المخيمات، تعيش هاجسًا صحيًا يوميًا، فالتحديات هائلة، والفرص المتاحة تتضاءل عامًا بعد عام، وأبرز المشاكل التي يعانون منها هي الكثافة السكانية علي بقعة محدودة، وعدم قدرة الأونروا (وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) علي تقديم الخدمات الصحية بما هو مطلوب. ولعل ما زاد الأمر سوءاً القوانين اللبنانية التي تمنع الفلسطيني من العمل في أكثر من 70 مهنة، من بينها العمل كأطباء بشريين وأطباء أسنان ومحامين ومهندسين ومحاسبين، إضافة إلي عدم وجود مصانع أو ورش إنتاجية تخصهم. ما جعل من المخيم بيئة خصبة للأمراض الجسدية والنفسية والاجتماعية. وفي دراسة ميدانية لواقع المخيمات في لبنان أعدتها المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد)، ثبت أن مخيم شاتيلا الأسوأ بين المخيمات؛ فيقع علي مساحة تبلغ حوالي 1400 متر مربع وتعداد سكانه نحو 17 ألف نسمة، منهم عشرة آلاف فلسطيني وسبعة آلاف لبناني وسوري، يسكنون في بيوت غير آدمية وآيلة للسقوط، فهي عبارة عن منازل جدرانها من خرسانة وسقوفها من الزنك، وتقدر بنحو 70 منزلاً. كما أنها تعاني من الرطوبة والظلام وقلة التهوية بسبب ضيق مساحة المخيم والتصاق المنازل، بجانب التصدعات في الجدران والأسقف وما يسببه ذلك من تسرب المياه علي رءوس اللاجئين. وبخصوص شبكات الصرف تتعرض لانسداد دائم، بسبب انخفاض موقع المخيم عن مستوي المناطق المحيطة به. كما أن مياه الشرب التي توفرها الأونروا غير صالحة بسبب تلوثها وملوحتها، ما يجبر الفلسطينيين علي شراء المياه العذبة من المحالّ التجارية. في شاتيلا يتجلي الانتظار والصبر علي وجوه اللاجئين، ما كان طبيعياً أن يجد النازحون السوريون من مخيمات الفلسطينيين مأوي يحلمون فيه معاً بالعودة، وجودهم هناك يذكرك بقول شاعرنا العربي امرؤ القيس: "اجارتنا إنا غريبان ها هنا.. وكل غريب للغريب نسيب". التعرف علي سوري للوهلة الأولي يكاد يكون مستحيلاً. جدران المنازل وحدها تكشف جنسية ساكنها. صور كثيرة معلقة للرئيس السوري بشار الأسد. هنا حتما تجمع الدمشقيون. كلمات الشاعر السوري نزار قباني مدونة علي الأبواب: "أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي.. لسال منه عناقيدٌ وتفاح". نظرة إلي أعلي وجدت فوهات البنادق تطل من أسقف البيوت، وصبية يجلسون في وضع الهجوم، ونساء يختفين بمجرد لمحهن. لم أجد رجلاً أتحدث إليه. طرقت باباً وآخر وآخر. الكل يرفض الحديث. يسألونني: "شو شايفة إنت معاناتنا؟". أخبرت إحداهن أن هدفي هو عرض قضيتهم. تجرأت وهدأت وتكلمت: "احنا ما بدنا شيء يوجع راسنا.. العيشة هون صعبة، وكل شيء غالي، نزحت من مكان لمكان.. من ريف حلب حيث أسكن حتي وصلنا إلي شاتيلا مع زوجي وعائلتي". ملامحها الهادئة والصاخبة في ذات الوقت تعكس مشاهد الحرب والخوف والجذع. المرأة التي لم تفصح عن اسمها نزحت إلي بيروت منذ عام وتعيش الآن علي تيسير الله. جارتها سلوي حماد التي تبلغ من العمر 42 عاماً، قابلتني بابتسامة، كأنها تعتذر نيابة عن رافضي المقابلة، قالت بأسي: "اعذرينا.. هنا الوضع كتير سيء، ونفسية السوريين تعبانة، ما قدرنا نستحمل الحرب.. وهربنا من حلب بسبب أوضاعها الأمنية السيئة، لم نكن نقدر أن نسير في الطرقات، ولم يستطع أزواجنا الذهاب إلي مشاغلهم، وأتينا إلي لبنان ووجدنا الحياة لا تختلف بؤساً عن سوريا.. زوجي عاطل وولادي بيجبولنا مصاريف.. ما بدك تسأليني مهيتهم كام.. بدك تحسبي أنو المصاريف تكفي إيجار البيت فقط". النازحون السوريون وصل عددهم الشهر الحالي إلي أكثر من مليون و58 ألف نازح موزعين علي مناطق في شمال لبنان وشرقه وجنوبه إضافةً إلي العاصمة بيروت وجبل لبنان. جميعهم نزحوا علي مدار الثلاث سنوات الماضية. ومتوقع ازدياد عددهم في الأشهر المقبلة. وذكر تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدد المسجلين لديها مليون وخمسة آلاف سوري، وأن هناك أكثر من 52 ألفا في انتظار التسجيل. جميع المسجلين يحصلون علي مساعدات من خلال بطاقة المفوضية السامية، إذ تمنحهم مواد غذائية وإغاثية وأدوية شهرية، ومساعدات أخري، ومن دون البطاقة لا يمكن لأي نازح استلام أي دعم أو مساعدة.