ربما تكون الصور التي التقطتها عدسة الفنانة مني حلمي وأهدتها إلي آخر ساعة لن يكون لها أثر في الواقع والقارئ العزيز يطالع هذا التحقيق، ذلك لأن المسئولين حددوا موعدا نهائيا لإخلاء عشش عزبة النخل وإزالتها ونقل من فيها إلي أماكن بعيدة عن مصدر رزقهم، والحجة هي تهديدهم لكوبري الشيخ منصور الذي يعيشون تحته، وبينما مأساة البعض من الأهالي تنحصر في إبعادهم عن ذكرياتهم ولقمة عيشهم (420 اسرة فقط هم من تم تسجيلهم في دفاتر الحكومة) فإن الأكثرية (1600 أسرة) مصيرهم التشريد! حسنُُ، إذا كان المكان (الآن) يخلو من سكانه ولا يوجد أثر يدل علي من عاشوا فيه لعشرات السنين ففي الأمس القريب كانت هنا بيوت طينية واطئة بأبواب مفتوحة تلفظ وجوها - نظيفة - لأطفال يبتسمون ويقتربون في فضول، ورجل في الثمانين يجلس علي عتبة البيت يخفي في طيات تجاعيده حكايات، ونساء لا يظهرن إلا عيونهن ويخلطن الكلام بالضحك، وامرأة مسنة مصابة بالرمد تسأل، وشاب يستقبل القادمين ويتحدث عن نفسه، ورائحة منعشة تفوح من جدران حجرات ضيقة تحتوي علي آثاث فقير ومرتب، وخوف، وكلام حول سيارة شرطة دهست صبيا لم يكمل سنواته الخمس اسمه رمضان، وضابط ضرب امرأة، واعتدي علي من حاول منعه. في مساء الخميس الماضي لم يكن فرج فتحي يعلم بقدومنا، لكن الشاب الذي يبدو في الثلاثين من العمر يقف دائما في انتظار ضيوف بعد أن منحتهم جريمة وقوع الكوبري الفرصة للظهور في وسائل الإعلام وتسليط الضوء علي أحوالهم المعطوبة. يقول فتحي إنه المتحدث باسم عشوائيات عزبة النخل ويحكي عن مؤتمر من المقرر أن يتم انعقاده حول مصيرهم المبهم ورفضهم التهجير إلي أماكن مجهولة (بالنسبة لهم) مثل السادس من أكتوبر والمؤسسة بينما حياتهم (كلها) هنا! وفوق عتبة عشته جلس رشاد محمد، كان يرتدي جلبابا بلديا يظهر نحافة شيخوخته، وكان ينظر في الأرض وكأنه يراقب شيئا لا يراه سواه، ويضع في حجره يده اليمني وهي تصافح يده اليسري.. الرجل الذي تخطي الثمانين من عمره قال إنه يعيش هنا منذ ثلاثين عاما وبمجرد أن بدأ في الحديث تجمع حوله أحفاده الصغار ووقف علي رأسه بناته يرقبن ما يقول ويذكرنه بما قد ينسي. كان رشاد يتحدث بصوت هادئ يجبر الجميع علي الإنصات، ذكر أنه كان يعمل في الماضي فرّانا، وقال إنه يحصل شهريا علي مبلغ 225 جنيها من الشئون الاجتماعية، ويسكن مع أولاده الخمسة (4 بنات وولد) وكل واحد من أولاده يشغل حجرة مع أسرته وكل أسرة مكونة علي الأقل من 4 أفراد. سمح لنا الشيخ رشاد بالدخول إلي منزله الذي هو عبارة عن طرقة صغيرة ضيقة تقع علي يسارها الحجرات الخمس، وكل حجرة تتسع بالكاد لدولاب متوسط الحجم وسرير نوم: هنا يعيش عبد العليم ابني مع زوجته وأولاده. يقول رشاد وهو يشير إلي أول حجرة، وقبل أن يصل إلي الحجرة الثانية يقول: وهنا أم أحمد بنتي مع زوجها وبناتها. في الحجرة الثالثة التقينا بزوجته التي حكت لنا بدورها عن ذكرياتها عندما أتت من الفيوم إلي القاهرة قبل ثلاثين عاما في صحبة زوجها بحثا عن رزق، تضع يدها علي دولاب قديم وتقول: هذا من جهازي! تبتسم في خجل، متجوزين لينا خمسين سنة.. تعلو ضحكات بناتها، ويتقافز أحفادها علي السرير وهي تنظر إليهم في حنو. نسأل أم عبد العليم عن عمل زوجها الحالي فتقول: مفيش!.. بس زمان كان بيشتغل في الفاعل وكانت صحته حلوة! وعن حالهم الآن تقول: زي ما أنت شايف لا زرعة ولا قلعة وكل حي في أوضة.... تفتح يديها الخاليتين: اللحمة مبنشوفهاش شهور وبنقضيها عدس وبصارة ، تطبطب مني حلمي علي كتفها وتداعبها قائلة: اللحمة مضرة يا حجة! وتحكي زوجة عبد العليم عن ضيق حال يحاصر زوج يعمل سائق توك توك تزاحمه السيارات. سكان العشش ينظرون إلي الشقق في العمارات القريبة منهم علي أنها حلم بعيد المنال، لكن أم أحمد تحلم لبناتها بالاقتران بأزواج يستطيعون الحصول علي مثل هذه الشقق ! أسألهم عن انتخابات الرئاسة ومن سيرشحون فتقول أم عبد العليم التي أتمت منذ أيام عامها ال 66: اللي يمسكها يمسكها واللي يسيبها يسيبها إحنا اللي ضايعين في الرجلين. الحجرات مرتبة والرائحة الطيبة تفوح من جدران طينية، وأسقف من القش وأطفال يمرحون وكأن السعادة توجد هنا. كان بيت رشاد يشبه كل بيوت العشش.. فقط ممر ضيق وطويل تقع علي إحدي جانبيه الحجرات الخمس وفي نهاية الممر يوجد حمام مشترك ومطبخ مشترك! بمجرد أن علم سكان العشش بوجودنا في بيت رشاد خرجوا من حجراتهم أمام البيت ينتظرون أن نمر عليهم، كانت كل أسرة تصر علي أن نقوم بتصوير عشتها والتحدث إليها، كانوا يعتقدون إننا نقوم بتسجيل ما نراه ونعرضه علي المسئولين. امرأة هرمة اقتربت منا وهي تحكي عن ابنها الذي لم تسجله الحكومة في دفاترها ومصيره ومصيرها الذي سيكون الطرد والتشرد بعد قرار الإزالة، لم تكن تبحث عمن يستمع إليها فقط بل من ينقذها من أيام قادمة تعني بالنسبة لابنها الضياع وتحصد شيخوختها بالموت في العراء. اسمها تهاني حسن في الثمانين من عمرها ذكرت اسم ابنها مرات وهي تنظر نحونا بعينيها المصابة بالرمد لنسجله في أوراقنا: بسيوني عبد العزيز بسيوني.. وتلت أسماء أولاده. سكان عشش عزبة النخل لم يمانعوا في نقلهم إلي المؤسسة لكن الخوف كان يلازمهم من أحاديث جيرانهم ممن تم تهجيرهم إلي شقق جديدة قالوا إنها رديئة، بينما البعض يشيع أنه سيتم نقلهم إلي مدينة السادس من أكتوبر حتي إذا سمع الشيخ رشاد اسم المدينة قال لهم: واحنا هنروح هناك نعمل إيه.. ناكل زلط!؟ أمام بيت فرج ( المتحدث باسم العشوائيات) كانت زوجته أم هادي تقف أمام ما يشبه محل صغير للبقالة في حجرتها التي فتحتها علي الشارع، لم يكن بداخل المحل بضاعة تذكر، أرفف فارغة عليها بعض علب البسكويت والكبريت ومساحيق الغسيل وثلاجة صغيرة يظهر زجاجها الشفاف عبوات من الكوكاكولا. ذكرت أم هادي أن بيتهم يتكون من 7 حجرات تعيش في كل حجرة أسرة وقالت إنها تحفظ القرآن كاملا ونالت علي إجادة حفظه شهادة تقدير سلمها لها الدكتور علي جمعة حين كان مفتيا للديار المصرية، تحدثت عن زوجها الأرزقي الذي لا يجد عملا منذ ثورة 25 يناير، وتمنت أن تعود لعملها الذي فقدته في الأزهر حين كانت تحفظ الصغار القرآن الكريم، وسعيها للعمل في التمريض، وانتشار تعاطي المخدرات بين شباب ضاقت عليهم الأرض ويرغبون في الهروب من واقع لا يرحم طموحهم المشروع في الحصول علي عمل.. أي عمل.. كانت أم هادي الحاصلة علي دبلوم المدارس الفنية تتحدث بشكل منظم، وتشكو من الشرطة التي داهمت جيرانهم علي الجانب الآخر تحت الجزء الذي وقع من الكوبري ودهست طفلا ونقلته علي الفور إلي العالم الآخر، وضربت امرأة وطاردت الرجال بقسوة. قالت إنها ذهبت إلي النساء في العشش وحرضتهن علي عمل وقفة احتجاجية حتي لا ينالهن الأذي.. لكن النساء لم يستجبن. صابرين التي وقفت بجانبها أكدت ما تقوله أم هادي من مداهمة العشش ومطاردة الشرطة للسكان وإجبارهم علي النزوح إلي مدينة السلام البعيدة عن مصدر رزقهم قالت: إن الحكومة منحتهم الشقق حتي (تطرمخ) علي حادثة الطفل ولا يعلم بها أحد. شاهد عيان أيضا أكد ما حدث من ضرب الداخلية للسيدات، وقال إنه حين أراد منع الأذي عن النساء تعرض لنفس المصير. وفي حجرته الصغيرة كان أحمد عبد الباقي (سباك) يستريح من عناء يوم شاق ويتناول طعامه الذي هو عبارة عن سمكتين صغيرتين و.. فقط. نسأله عن يومه، ينظر إلي السقف (عبارة عن سباطة موضوعة علي جذوع سيسبان) ويقول: أهي ماشية. ويضيف: ولدت هنا.. كما تري.. وضع غير لائق.. أنام علي هذه الكنبة، وزوجتي وأولادي علي هذا السرير، أشعر بالمهانة بسبب حمام مشترك لا يستر الأعراض! وعن دور الحكومة يقول: همّا بس ياريت يسيبونا في حالنا! علاقتي بيهم ماسك ملف عمل جماهيري في حزب العيش والحرية.. أثناء جولتنا في عشش عزبة النخل أسفل الكوبري كان يصحبنا المهندس محمد سامح محجوب المسئول عن الملف الجماهيري في حزب العيش والحرية (تحت التأسيس). محمد الذي لم يفارق سكان العشش منذ حادثة الكوبري قال: اللي حصل إن فيه حريقة ومحدش عارف سببها إيه، المهم الحريقة كانت في الأول صغيرة وفضلت تكبر والساعة 2.30 الناس اتصلت بالمطافي والمطافي كل مرة تقولهم 5 دقايق وهنيجي ولم يتحركوا إلا بعد الساعة الساعة 4.30 مع العلم أن المسافة بين الحريقة وأقرب نقطة إطفاء ثلاث دقائق فقط أو أقل المهم بعد ما المطافي جت وحاولت تطفي الحريق انفجرت أنبوبة بوتجاز وهي اللي أدت لسقوط الكوبري ومات 4 من رجال المطافي ومش من الأهالي خالص! يحلل محمد ما حدث بشكل هندسي: كنت عارف من زمان إن الكوبري آيل للسقوط وكان بيحصل عليه حوادث كتير منها سقوط عربيات، وكانت الحكومة كل شوية تعمل ترميم وتصليحات ويلا مشي نفسك! لو ركزت شوية أكتر الكوبري هتلاقيه معمول كلوا ستيل ومافهوش ولاعمود خرسانة واحد وعمدانه مش متثبتة كويس والمسامير مسروقة منه والكوبري حارة واحدة أو اثنتين صغيرتين جدا وبيطلع عليه أتوبيسات شركات موظفين وعربيات نقل تخيلوا انتوا الموقف!.. والأجمل بقي إن الحكومة قررت تعمل كوبري تاني يعدي من فوقية وحفرت وكسرت جنبه من كام شهر وإتبني نصه. ويستطرد: نزل رئيس الحي مصحوبا بالظباط، وقال لهم يوم الأحد بالتنسيق مع وزارة الداخلية هتنزل قوة من الأمن المركزي ليتم إخلاء كل العشش اللي هناك 420 أسرة معاهم عقود وورق ودول هيتعوضوا بشقق و 1600 أسرة هيتعملهم تهجير عشان مش معاهم ولا عقود ولا ورق وهيطلعوهم بالقوة وده كان كلام رئيس الحي للأهالي النهاردة. ويواصل تطورات الوضع: الحكومة جاءت وخدت 13 أسرة من العشش بالليل ونقلتهم إلي شقق في النهضة. يعلو صوت محمد: طيب ياعم ال 13 أسرة دول من الناس إللي معاهم عقود وعندهم عدادات كهربا وبانيين العشش بتاعتهم وتم نقلهم إلي النهضة اللي هي مكان بعيد عن أكل عيشهم وبعيد عن ذكرياتهم وحياتهم ولا توجد بها مواصلات ..ده اللي حصل مع الناس اللي معاهم عقود فما بالك بقا بال 1600 اللي مش معاهم عقود اصلا نزلت الحكومة عشان تطلعهم من العشش بتاعتهم اللي هما ال 13 أسرة في غياب رجال العشش المشغولين بالبحث عن رزق ..الستات رفضت انهم يطلعوا فالظباط والعساكر نزلوا ضربوهم وضربوا الستات وطلعوهم بالقوة.. وظابط دهس بعربيته طفل صغير بيلعب عنده 4 سنين أسمه رمضان.. الظابط داس علي دماغه بالعربية وموته! والناس هناك معرفش عملولهم إيه بالظبط يحكوا اللي حصل ومرعوبين يقولوا الظابط هو اللي قتل إبنهم واللي حكالنا القصة واحد بس منهم والأهالي بتوع باقي العشش رفضوا يروحوا الشقق اللي في السلام أو النهضة.