خيرية أمتنا تنبع من سماحتها، فإذا فقدت الأمة سماحتها فقدت خيريتها، فقد علمنا نبينا (صلي الله عليه وسلم) أن خير الناس أنفعهم للناس، وقامت ثقافتنا علي أنه ما استحق أن يولد من عاش لنفسه، ثم إن القرآن الكريم ذكر أول ما ذكر في مقومات خيرية هذه الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وكلمة »بالمعروف » في قوله »كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ » إنما تتعلق بكلمة »تأمرون»، وهذا التعلق لا ينصرف إلي الغاية وحدها أي الفعل أو العمل المأمور به وحده، كبرِّ الوالدين، أو الصدق، أو الأمانة، أو الوفاء بالعهد، أو الصدقة، أو إكرام الكبير والضعيف وذي الشيبة، أو صلة الرحم، أو تفريج الكروب أو إغاثة الملهوف، وإبراء المعسر أو إنذاره، ونحو ذلك، إنما يتعلق إلي جانب ذلك بوسيلة الأمر، فكما أن الغاية معروف، فإن الوسيلة لابد أن تكون كذلك، بأن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف غاية ووسيلة، استجابة لقوله تعالي : » ادْعُ إِلَي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ »، فلا يتصور قبول الأمر بالمعروف من شخص لا يعرف معني المعروف ولا معني الإحسان ولا سنة خير الأنام محمد (صلي الله عليه وسلم) في الدعوة إلي الله (عز وجل) بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو الذي ضرب لنا أعظم المثل في ذلك، والأمثلة في حياته لا تحصي ولا تعد، بل إن كل حياته (صلي الله عليه وسلم) وسنته قائمة علي ذلك، علي الرحمة، علي الرفق، علي لين الجانب، ومن ذلك قصة الإعرابي الذي بال في المسجد، فقام الناس إليه، فقال النبي (صلي الله عليه وسلم) : »دعوه، وأريقوا علي بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين». وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: بينما نحن جلوس عند النبي (صلي الله عليه وسلم) إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت! فقال: (ما أهلكك؟). قال: وقعت علي امرأتي، وأنا صائم، وفي رواية: »أصبت أهلي في رمضان»، فقال رسول الله (صلي الله عليه وسلم): (هل تجد رقبة تعتقها؟) قال: لا، قال: (فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟) قال: لا، قال: (فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟) قال: لا، قال: فسكت النبي (صلي الله عليه وسلم)، فبينما نحن علي ذلك إذ أتي النبي (صلي الله عليه وسلم) بمكتل فيه تمر، فقال (صلي الله عليه وسلم): (أين السائل؟)، قال: أنا، قال: (خذ هذا فتصدق بِه)، فقال: أعلي أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما في المدينة أهل بيت أفقر من أهل بيتي! فضحك النبي (صلي الله عليه وسلم)، ثم قال: (أطعمه أهلك). علي أن خيرية الأمة يجب أن تترجم إلي واقع عملي وأخلاقي، فخير الناس أنفعهم للناس، وذلك لا يتحقق إلا بالتعاون والتكافل والتراحم، وألا يكون بيننا جائع ولا محروم، وأن نحمل الخير للناس كل الناس دون تمييز علي أساس دينهم أو جنسهم أو لونهم أو لغتهم، إذ ينبغي أن يكون ذلك للناس كافة، يقول نبينا (صلي الله عليه وسلم): »ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» ويقول (صلي الله عليه وسلم) »ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلي جنبِه وهو يعلم»، ويقول (صلي الله عليه وسلم) : »والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه». نحتاج إلي ترجمة هذه الخيرية إلي واقع ملموس من خلال رحمة الطبيب بمرضاه، والمعلم بطلابه، والصانع بمساعديه ومعاونيه، ورب المال والعمل بعماله وصناعه، نريد أمة قوية غنية عاملة منتجة متقنة تحمل الخير للناس جميعًا، فقوة الأمة تقاس بقدرتها علي العمل والإتقان والإبداع والابتكار وتقديم الخير للبشرية جمعاء. إن مشكلة الجماعات المتطرفة تكمن في فهمهم الخاطئ لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدلًا من دعوتهم إلي الخير بالمعروف فإنهم يشددون علي الناس ويشقون عليهم ويصيبونهم بالعنت، فينفرونهم من الدين، علي أن ديننا الحنيف قد حذَّرنا من جميع أنواع التشدد والغلو، فقد قال (صلي الله عليه وسلم): »هلك المتنطعون»، وكررها ثلاثا؛ لبيان خطورة التشدد والتكلف والتنطع في الدين.