بمناسبة أن فى سوق المرشحين الرئاسيين المنصوبة فى البلد حاليا شخصيات يحظى بعضها بشعبية هائلة مع أنها تشبه فى الفجاجة والطرافة والجهل شخصية «اللمبى»، وآخرين تكاد ملامحهم تتطابق (من حيث الجمع بين الثراء والغموض والجهامة) مع سمات شخصية زعيم العصابة السرى فى فيلم «الرجل الثانى»، فقد استدعيت سطورا قديمة حكيت فيها نُتَفًا من قصة حاكم غريب الأطوار خلَّد المصريون سيرته بالنكت والمأثورات المضحكة وحوّلوه إلى مسخة تاريخية عابرة للعصور.. إنه الوزير «قراقوش» الذى لا يختلف كثيرا عن نماذج عديدة نراها الآن معروضة فى السوق الانتخابية الرئاسية، فقط كل ما يميزه عنهم أنه لم يصعد إلى سدة الحكم بالانتخاب كما يطمع هؤلاء: ربما بعض الناس لا يعلم أن شخصية «قراقوش» التى استقرت فى تراث ووعى المصريين كنموذج لفظاظة وفجاجة ولا معقولية الاستبداد وأضحت مَضرِب الأمثال على التعسف والظلم وغباوة الديكتاتورية، هى شخصية تاريخية حقيقية وأن «قراقوش» هذا كان أقرب وزراء السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبى إليه وأكثرهم تمتُّعًا بثقته حتى إنه ترك له تماما إدارة وحكم مصر نيابة عنه. بينما هو مشغول بقيادة جيوشه التى تقاتل على جبهات الحرب مع الصليبيين فى الشام وفلسطين، مما منح «قراقوش» سلطات رهيبة مارسها واستخدمها على نحو لامس كثيرا حدود الجنون فاستحق هذا الانتقام القاسى العابر للعصور والأزمان الذى أمعن فيه المصريون عندما لاحقوا سيرة هذا الديكتاتور المأفون بالسخرية والكوميديا السوداء واتخذوا من وقائعها وحكاياتها (الحقيقية والمختلقة) قرينة ومثالا على الشذوذ وضيق الأفق ولم يتركوها تموت بعد أن مات صاحبها وشبع موتًا، بل أبقوها حية حاضرة تنهش فى روحه مئات السنين وتجعله عبرة وعظة لمن يريد أن يتعظ ويعتبر من الحكام الفَسدة المستبدين الذين يتملكهم الوهم ويذهب هيلمان السلطة وقوتها الفادحة الغشيمة بعقولهم وأفهامهم فيظنون أنهم خالدون وسيبقون بمنأى عن الحساب والعقاب والانتقام. وعلى رغم جبروت «قراقوش» وعُتوِّه فإن انتقام الناس منه بالتندُّر والضحك من آيات ظلمه وفُحشه لم يتأخر ولم ينتظر رحيله وموته، بل بدأ وهو ما زال جالسا يعربد على سدة الحكم، بل إن تخليد ذكراه السيئة وتوثيقها وتحويلها إلى مضغة تتوارثها ألسنة الأجيال تم فى عهده الأسود، إذ أقدم موظف كبير فى الدولة الأموية هو «شرف الدين أبو المكارم بن أبى سعيد بن مماتى» الذى كان يتولى منصبا يوازى وزير المالية فى عصرنا، على تأليف «كتيب» فضح فيه ووثَّق ممارسات قراقوش الشاذة عَنْوَنَه ب«الفاشوش فى حكم قراقوش» وقد استهله بأنه سَطَر هذا الكتاب أساسا «للسلطان صلاح الدين، عسى أن يريح من شروره المسلمين» لأن حماقته وغباءه وضيق أفقه لا تصدر عن شخص عادى بحيث تنحصر آثارها فيه شخصيا، وفى الدائرة الضيقة من آل بيته وإنما تصدر عن حاكم يتحكم فى عباد الله ومصائرهم فيشيع شره وأذاه ويعم عليهم جميعا. وبالطبع نحن لا نعرف إن كان بن مماتى أرسل الكتاب فعلا إلى السلطان قبل أن ينشره على الملأ أم لم يفعل، لكن التشهير بالوزير العاتى بدا واضحا من العنوان الذى تعمد أن يصدِّره بلفظة «الفاشوش» التى تعنى «الصفر» وتشير إلى الخسارة والإفلاس والخراب، ثم تحت هذا العنوان راح يعدِّد مظاهر ووقائع الفساد وآيات من «شطط الشياطين» التى أسرف قراقوش فى ارتكابها، ومنها مثلا أن الشرطة جاءته ذات يوم بواحد من غلمانه قتل مواطنا بغير حق فنطق قراقوش للتوِّ بحكمه دون تحقيق ولا تمحيص ولا سؤال وقال: اشنقوه.. لكن عندما أخبره أحدهم بأن الغلام هو نفسه الحداد الذى يصنع النعل لفرسه تراجع وأخذ ينظر ذات اليمين وذات اليسار، فلما رأى عابر سبيل يعمل قفَّاصًا يمر مصادفة بباب قصره، هتف: إذن اشنقوا هذا القَفَّاص واتركوا حدَّادى! وفى مرة أخرى أتاه رجل مَدِين لرجل آخر يشكو من أنه كلما ذهب إلى هذا الأخير ليسدد دينه لم يجده، لكنه فى الأوقات التى يكون فيها خالى الوفاض يأتيه الدائن مطالبا إياه بالدفع، فما كان من «قراقوش» إلا أن حكم بإيداع صاحب الدَّيْن فى السجن حتى يعرف المَدِين مكان وجوده عندما يقرر أن يدفع له! وفى آية أفظع من الشذوذ والجلافة يُحكى أن قراقوش حكم ذات مرة فى قضية جندى تسبب فى إجهاض امرأة حامل بأن يأخذ الجندى المرأة ويتولاها بالرعاية والعناية ولا يعيدها إلى زوجها مرة أخرى إلا وهى حامل فى سبعة أشهر كما كانت حالتها عندما أُجهضت!