الثنائية القاتلة التى عشنا فيها فى العقود الأخيرة كانت تقضى بأن يسيطر العسكر على الدولة، وأن يسيطر الإسلامجية على المجتمع. الآن جمع الإسلامجية -فى هذه اللحظة التاريخية- بين السلطتين. ليس هذا نهاية العالم. فمن المفترض أن السلطة فى دولة «ديمقراطية» كدولتنا سوف يتم تداولها. إنما هنا تأتى قضية الدستور. وتكمن أهميته القصوى. 1- الإسلامجية يعرفون أن هذه لحظة ذهبية. معهم أغلبية داخل اللجنة التأسيسية قد لا تتكرر مرة أخرى. ومعهم السيطرة المجتمعية التى ستمكنهم من الحصول على أغلبية لأى دستور يكتبونه. سيستخدمون نفس الدعاية الكاذبة ويدَّعون أن هذا دستور الإسلام، وأن مَن يعارضه إنما يعارض الإسلام. بينما فى الحقيقة هو دستور يمكِّن لهم هم ويكرِّس السلطات فى أيديهم، ويجهض توجه أى أغلبية قادمة. بعبارة أخرى، دستور يجمِّد الوضع فى مصر عند هذه اللحظة التى يملك فيها الإسلامجية كل السلطات، ويجعل تداول السلطة بلا معنى. ويضمن لشيوخ قبيلتهم أن لا تؤثر الديمقراطية على «مكتسباتهم» التى حازوها طوال العقود الماضية. من هنا كان حرصهم الغريب على الكتابة التفصيلية الركيكة لوثيقة المفترض فيها أن تكون وثيقة مبدئية تضمن الحقوق العامة والفردية. 2- على الناحية الأخرى يبدو فريق من الذين يعتبرون أنفسهم من «التيار الثورى» غير واعٍ لمدى أهمية قضية الدستور. بعضهم ب«يشاور نفسه»، ويعتقد أننا سنقبل منهم «عصر الليمون» مرة أخرى. سواء بدعوى الاستقرار أو بدعوى إعطاء الفرصة أو بدعوى «القضاء على الاستقطاب». لا يدرك هؤلاء أن قضية الدستور غير مسموح فيها بأنصاف الحلول. إما دستورا تعدديا يسمح للجميع، للجميع، بأن يعيش معززًا مكرمًا على هذه الأرض، وإما دستورا متخلِّفا محشوًّا بالقنابل الموقوتة، حتى إن كان يبرر انتهاك حقوق مصرية واحدة فقط. الدستور الذى يفعل ذلك دستور لا ينتمى إلى عصر «الدساتير»، بل ينتمى إلى عصر الغلبة والسبى وقوانين الفتح. إن أردتم دستورًا كهذا فسمّوه بأسماء عصره، ولا داعى للتدليس وتشويه مكتسبات الحضارة الإنسانية. إننا نريد دستورًا يكفل للجميع حقوقهم حفاظًا على الاستقرار الحقيقى. فدساتير المساواة جاءت نتيجة لتراكم خبرة الإنسان، وإدراكه لعوامل استقرار المجتمعات فى مقابل عوامل خلق الصراعات. ومن هنا فإننا لا نخترع العجلة، فقد جُرِّبَت «قوانين الغلبة»، ودساتير التفرقة العنصرية والدينية والجنسية فى بلاد كثيرة، ولم تفلح، ولا استقرت تلك البلاد حتى اتفقت على عقد اجتماعى توافقى. مثل هذا العقد وحده يقضى على الاستقطاب، أما القضاء على الاستقطاب بالإذعان لأحد الأقطاب، فليس إلا تلاعبًا آخر بالكلمات غرضه التدليس فالتضليل. وبعضٌ آخر من «التيار الثورى» يحتاج أيضًا إلى تذكيره بأن سلوكه ينبغى أن يكون انعكاسًا لما يحلم به. إن كان فعلًا يؤمن بدستور توافقى يكفل لجميع المواطنين حقوقهم، ويحظى بتأييد أغلبية كبيرة تمنحه الشرعية التى يحتاج إليها، فعليه أن يعى أن هذا يبدأ من قبول التنوعات السياسية فى هذا البلد. يا صديقتى الثورية: إن قبولك التنوع لا يعنى أبدًا تخليك عن مبادئك. تستطيعين من خلال حزبك أن تستمرى فى التعبير عن مبادئك فى درجة النقاء التى تشائين. ولكن إن أردت أن تغمضى عينيك وتفتحيهما لتجدى كل مَن حولك يعتقدون كما تعتقدين تمامًا تمامًا، ويسلكون السلوك الذى تسلكين تمامًا تمامًا، فأبشرى. أنت على الخطوة قبل الأخيرة لكى تكونى إنسانة فاشية بامتياز. الفاشية تبدأ باعتقاد الإنسان أن صورته هى الصورة المثلى التى ينبغى أن يكون عليها الجميع. لو استمر أسلوب إقصاء الآخرين فلن نجد كتلة انتخابية تكفى لضمان الحصول على دستور عصرى. الأمر يحتاج إلى بعض التفكير. ليس هذا ضد الشعور الثورى. لأن تمرير دستور متخلِّف سيمهد للقضاء على الأمل بقوة القانون، تذكَّرى أن كتبته أبرز مَن وقفوا ضد الثورة منذ التنحى حتى الآن. ويا للكارثة حينما تجتمع قوة القانون مع السلطة باسم الدين! صدقينى. الموضوع مش هيبقى هزار أبدًا. إلا طبعًا لو كان دا غرضك، بس مخلياه فى سرك، ومابتقوليش لحد.. وبعد ما يتمرر دستور «مفاخذة الصغيرة» هتقولى لنا «ضحكت عليكو يا هبل». أنا واثق إن كتير من «المحوِّلين الاستراتيجيين» هيقولوا لنا كده قريبًا. وبصراحة، مش هاقدر ألومهم. هم فعلًا ضحكوا علينا ولبِّسونا فى حيطة ورا حيطة، وجحر ورا جحر.