يعتقد الجهلاء وقليلو الخبرة وضيقو الصدور أن بوسعهم أن يمنعوا سخرية الشعب من الحاكم إن كان ضعيفاً خائراً، أو كذوباً جهولاً، أو متجبراً أعمى، أو فاسداً لصاً، أو مغلباً مصالحه وذويه على مصالح الشعب. فتاريخ هذا البلد العظيم يقول إن شعبه لم يصده ولا يرده شىء عن التهكم على حكام لم يعجبوه. ولذا سمى بطليموس الثامن «أبوكرش» وأطلق على عبدالملك بن مروان لقب «أبوالذباب»، وعلى طويل الجسد مروان بن الحكم «خيط باطل»، وعلى معاوية الثانى «أبوليلى»، وعلى مروان الثانى «الحمار»، ولقبوا على عبدالله بن عبدالملك الذى ارتفعت فى عهده الأسعار وعم الفقر ب«المكبس» ولقبوا محمد على «ظالم باشا» أو «تاجر الدخان» وسموا الخديو سعيد «مكرونة» والخديوى توفيق «الواد الأهبل» و«الحضرة الكئيبة». وحين فاض بهم الغضب منه خرجوا إلى الشوارع هاتفين: «يا توفيق يا وش القملة.. مين قالك تعمل دى العملة». كما أطلقوا على رياض باشا «الديك الرومى»، واللورد كرومر «كرنبة» وأتذكر وأنا طفل صغير أن رجلاً كان يأتى لبيع حلوى موضوعة عليها صورة السادات، فيمسك الواحدة منها فى يده ويصرخ «أبوقرعة بقرش»، ونعرف جميعاً أن مبارك كان اسمه «البقرة الضاحكة». كل هذا وأبعد منه فى عمق التايخ يرصده لنا المحامى القدير الأستاذ حمدى الأسيوطى فى كتابه «إهانة الرئيس» ويبين لنا بالبرهان أنه حين يضعف الحاكم أو لا يكون واثقاً من نفسه وتترهل مؤسسات الدولة وتخور تظهر هذه التهمة ويزداد الكلام عنها والعمل بها. فمنذ إعلان الملكية الدستورية فى مصر عام 1923 حتى وزارة الوفد الأخيرة عام 1950، أى على مدى سبعة وعشرين عاماً، لم توجه هذه التهمة البائسة إلا لعدد محدود، لكنها لم تلبث أن ترعرعت قبيل ثورة يوليو 1952، وزاد شيوعها وأفرطت السلطة فى استعمالها وكأنها مخالفة مرورية، مع وجود مواد فى قانون العقوبات تجرم «العيب فى الذات الملكية». واستمر الأمر بعد ذلك فى عهد عبدالناصر مع تخفيف العقوبة بعد تعديل القانون 112 لسنة 1957، واستعملها السادات تحت طائلة «قانون حماية القيم من العيب»، وبلغ الأمر أشده حين أصدر قراراً باعتقال 1536 معارضاً مصرياً لقيامه بتوقيع اتفاق كامب ديفيد. وعادت هذه «الجريمة الضاحكة» لتظهر أيام مبارك، لتصبح سيفاً مسلطاً، يستعمله إن أراد، وكيفما شاء، فتم بمقتضاه سجن المدون عبدالكريم عامر، ثم صدر حكم على الكاتب الصحفى الأستاذ إبراهيم عيسى بتهمة إهانة الرئيس ونشر أخبار كاذبة عن صحته، لكن مبارك عفا عنه. وظهرت بعدها قضية الشاعر منير حنا الذى أنشد قصيدة هجاء فى الرئيس السابق، وقضت محكمة بحبسه ثلاث سنوات بإجراءات تحقيق باطلة، لكن محكمة الاستئناف برأته. الآن وبعد ثورة عظيمة نادت بحرية التفكير والتعبير والتدبير، تنظر المحاكم قضايا بإهانة الرئيس، يعتقد المتعجلون ومن لم يقرأوا التاريخ، أنها يمكن أن تمنع الناس من السخرية والتهكم والنقد اللاذع إن وجدوا ما يؤدى إلى هذا فى هيئة الحاكم أو تصرفاته، فالقريحة الشعبية تستعصى على التعتيم والتحجيم والتكميم، وتعزز الأمر مع وجود شبكات التواصل الاجتماعى المتدفقة بلا هوادة، ولن يستطيع أحد أن يفرض على الناس أن يتهيبوا أو يحبوا أو يحترموا الرئيس أو غيره إن لم يكن يستحق هذا.