آفة العرب الانقسام. لا أتحدث عن الانقسام بين الدول العربية، ولكن أتحدث عن الانقسامات حتى داخل التيار الفكرى الواحد داخل الدولة الواحدة. ودون الدخول فى تفصيل مظاهر الانقسام وعدم القدرة على العمل الجماعى، فيمكن أن نتفق أن هناك خللا على مستويات متنوعة من الفشل فى العمل الجماعى السياسى، وهى معضلة اعتنى بها علماء كثيرون وكتبت فيها مؤلفات متعددة فى علوم الاجتماع والسياسة وإدارة الأعمال لخطورتها على مستقبل المجتمع والدولة والشركات. وبما أننا مقدمون على تكوين تحالفات متعددة حول رموز سياسية مختلفة، فمن المهم أن نتحوط لأسباب الانقسام بالتعرف عليها ابتداءً على أمل مواجهتها انتهاءً. ويمكن من حيث المبدأ رصد ثلاثة مداخل مهمة لفهم ماذا يحدث فى مجتمعاتنا: أولاً، مدخل نفسى سيكولوجى: ينظر لفشل العمل الجماعى بعين العوار الوارد على بعض الأشخاص الذين يعانون فقرا فى الإحساس بالأمان الذاتى والرغبة الشديدة فى الزعامة والسيطرة، واعتبار أن جلوسهم على مواقع السلطة والسيطرة على مفاتيح التنظيمات التى يشغلونها يشبع غريزة تحقيق الذات، وهى غريزة لا تقل فى سطوتها عن غريزة الطعام والشراب كما ذهب هارولد لاسويل (Harold Lasswell)، الذى رصد فى مؤلفات عشرات الأمثلة لأشخاص كانوا بلا حيثية أو مكانة اجتماعية فكان قرارهم بأن يصلوا إلى موقع الزعامة والسيطرة وإلا فسيعملون على تدمير التنظيم من داخله بمنطقنا الشعبى القائل: «إما فيها أو أخفيها». وهناك ثلاثة مظاهر لشعور البعض بعدم الأمان الذاتى والرغبة فى تدمير أى عمل جماعى لا يكونون على قمته: فابتداء، يرفض هؤلاء أن يُمدح شخصٌ لإنجاز حققه لأنهم يعتبرون أن نجاح أى شخص أو تنظيم إهانة مباشرة لهم، لأنهم يعيشون بمنطق «الناجح الأوحد». ومن ناحية ثانية، هناك الرغبة فى أن يكونوا فى كل المناصب وكل اللجان وكل الوظائف فى كل الوقت بل ويتفاخرون بتعدد الألقاب والمناصب لما تشبعه فى الشخص من نهم للسلطة والشعور بالقدرة على التحكم فى مصائر الآخرين. وهناك ثالثا الرفض الشديد لتفويض الآخرين فى القيام بمهام يمكن أن يكون لها عائد لا يمكن أن ينسب للشخص الباحث عن السلطة والسيطرة، والسعى الشديد لتحميل الآخرين مسئولية أخطائه هو؛ فهو دائما يسعى لأن يكون النجاح منسوبا له ويكون الفشل منسوبا للآخرين. فلا يستقيل عن منصب تولاه نتيجة شعور ذاتى بالخطأ وإنما مدفوعا بقوة أكبر منه. ثانيا، مدخل اجتماعى سوسيولوجى: تفكك تنظيماتنا الاجتماعية والسياسية من وجهة نظر علم الاجتماع يرتبط مباشرة بظاهرة التفكك الاجتماعى التى ناقشها ابن خلدون حين تحدث عن «العصبية الاجتماعية» كمصدر للقوة والغلبة والتمكن. وهو نفس المفهوم الذى تبناه إميل دوركايم حين ناقش نوعين من التماسك بين البشر فى جماعات ومجتمعات: التماسك التلقائى أو الفطرى القائم على علاقات غير اختيارية مثل تماسك وتضامن أبناء الأسرة أو القبيلة الواحدة الذى يسيطر على المجتمعات التى لم تشهد تطورا كبيرا ولا تشعبا وتعقيدا لمنظومة المكانات الاجتماعية والوظائف والمهن والمؤسسات. والتماسك العضوى أو المؤسسى المبنى على المصلحة المشتركة وتقاسم الأدوار (العضوى)، وهو تماسك يتطور بتطور المجتمعات وتعدد مؤسساتها ومختلف مكوناتها حيث يجتمع الأفراد لا حول الروابط الدموية أو الجيرة فحسب، وإنما حول الأيديولوجيات (أحزاب، نقابات على سبيل المثال)، والاختصاصات، والمهن، والقضايا المتعددة التى تتكاثر بفعل التطور اللانهائى للمجتمعات العصرية. والحقيقة أن أى مجتمع ناجح يجمع بالضرورة بين نوعى التماسك المشار إليهما. ومن هنا، مثلا، جاء التوجيه القرآنى فى أطول آية من آى القرآن الكريم ومن آخر ما نزل من القرآن (الآية 282 من سورة البقرة)، بكتابة الدَّيْن (أى عقود الديون والتجارة وغيرهما) بأدق تفاصيل ممكنة ومهما كانت ظروف الدائن والمدين، وهى آية مفتاحية لأنها تعلم المسلمين توثيق عهودهم وعقودهم وعلاقاتهم ومدايناتهم بالكتابة والإشهاد، وهو ما لا تستقيم بغيره حياة اجتماعية سليمة. وهو نفس القرآن الكريم الذى حث المسلمين على التضامن الفطرى والتلقائى من خلال حثه لنا ألا ننسى الفضل بيننا وتذكيرنا بأنه من تطوع خيرا فهو خيرٌ له، والعطف على الفقير والمسكين واليتيم وعابر السبيل وكل ذى حاجة. المشكلة فى مصر ومنطقتنا العربية أن التماسك التلقائى تراجع بشدة فى حين أن التماسك العضوى أو المؤسسى لم يحل محله؛ فهناك تراجع كبير فى رأس مالنا التلقائى القائم على القيم التقليدية حيث ينحسر احترام الكبير والعطف على الصغير ومعرفة حق العالم على المتعلم (أى صور التماسك التلقائى)، وفى نفس الوقت لا نشهد زيادة فى رأس مالنا المؤسسى حيث يتراجع احترام القانون وأخلاقيات المهنة وأصول العمل المؤسسى (سواء فى الجامعة أو النقابة أو الحزب)، فلا عدنا كما كنا فى الماضى ولا صرنا إلى ما ذهب إليه أبناء الحضارات الأخرى. ثالثا، مدخل سياسى أيديولوجى: غياب الأطر المؤسسية لتحديد من يحصل على ماذا، متى وكيف ولماذا، فينتهى الأمر بمغالبة ميكيافيلية بلا ضوابط سابقة وإنما اقتلاع شخص لآخر أو شلة لأخرى. وهذه واحدة من فضائل دولة القانون سواء وجدت فى نظم ديمقراطية أو غير ديمقراطية، حيث توجد قواعد مؤسسية حاكمة للجميع تجعلنا مهما اختلفنا نعمل فى إطار من القانون والبحث عن الحلول الوسط حتى لا تنفجر التنظيمات بما يعود بالسلب على الجميع، فبدلا من تقاسم النجاح نتنافس فى توزيع الفشل وإلقاء اللوم على الآخرين. وهى مسألة لا يولد الإنسان بها وإنما هى تكتسب كمهارات القراءة والكتابة والحساب، ولهذا حرصت المجتمعات الأكثر تقدما على أن تدرب النشء فيها على هذه القيم منذ دخولهم المدرسة، فيتعلم التلاميذ فى المدارس كيف يتخذون قراراتهم بالتشاور وتحديد البدائل والسعى للجمع بين البدائل المتعارضة فى بدائل مستحدثة تجمع أكثر من بديل فى صورة حلول وسط، ثم التصويت واحترام قرار الأغلبية بل ومعاقبة من يخرج على هذه التقاليد الديمقراطية. هنا يتدرب التلاميذ على كيفية الحياة فى ظل تنظيمات لا يمكن لهم أن يسيطروا عليها، وإنما عليهم أن يتعايشوا فى ظلها. وقطعا هذه تقاليد ليست مصرية أو عربية، إلا فيما ندر. ورغما عن أن ظاهرة انفجار التنظيمات من الداخل تعود إلى ما قبل الثورتين (ثورة 1952، وكذلك ثورة 25 يناير)، لكن الأمور اتجهت نحو الأسوأ فى ظل التقاليد التى تربى فيها مواطنو وسياسيو مصر ما بعد ثورة 1952، وما رسخته من قيم التزلف للسلطة ومداهنة القائمين على شئونها ونعت المخالفين بصفات الرجعية والتخلف واعتبار مخالفتهم فى الرأى مساسا بكرامتهم. وهو ما نلمسه فى سياسيين يدعون للديمقراطية وهم أمثلة صارخة فى الاستبداد على المستوى الأسرى والمهنى والسياسى. إن مستقبلنا يمكن أن نقرأه من حاضرنا كما أن حاضرنا يمكن فهمه من ماضينا. آمل بالفعل أن تنجح التحالفات الجديدة التى أرى الكثير من مقدماتها، ولا أعرف مدى جديتها، فى أن توازن التحالف القوى الذى تجسده القوى المحافظة دينيا. وأرجو ألا يتبنى هؤلاء أو أولئك سياسة الشطط والتخوين، وأن يكون التنافس ليس فى إظهار العوار الموجود فى الآخرين ولكن فى إظهار الإيجابيات الموجودة فى التحالف ذاته. المصريون يستحقون بدائل حقيقية وليس بديلا وحيدا ومئات الانتقادات له. هل ممكن أن نخرج من دائرة «الهتيفة والمعارضة والتخوين» إلى دائرة «المفكرين والدارسين والباحثين» عن حلول لمشاكلنا التى هى مشاكل كل مجتمعات العالم؟ ومن نجح فى مواجهتها ليسوا ملائكة منزلين من السماء أو كائنات فضائية خيالية، هم بشر نجحوا فى أن يتماسكوا على هدف وتحكمهم قواعد مكتوبة ومعلنة وأن ينكروا ذواتهم من أجل الصالح العام. {ولا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}.