.. استكمالا لسطور أمس، يوم الخميس الماضى نقل الزميلان مصطفى عيد ومحمد سالم إلى قراء صحيفة «الشروق» تصريحات أدلى بها المستشار أحمد مكى وزير العدل (فى حكومة تتهم نفسها بأنها حكومة الثورة) تناول فيها سيادته الصحافة والإعلام بعبارات مدهشة وصادمة وخطيرة، إذ أسرّ إلى الزميلين بأنه يعكف حاليا، ليس على تنقية وتطهير البنيان القانونى القائم من غابة كثيفة ورهيبة قوامها عشرات النصوص التى تفرض قيودا ثقيلة على حريات التعبير وتكاد لو طُبِّقت كلها تصادر وتلغى حق المصريين فى التنفس، وإنما معاليه عاكف وعازم على إثراء هذه الغابة بقيد قانونى جديد «يمنع الصحافة من الكذب».. هكذا نسب الزميلان إلى الوزير والقاضى الجليل نَصًّا!! ورغم أننى أشكّ شكًّا عظيما أن يجد سيادة الوزير فى هذه الدنيا الواسعة «اختراعًا» يصلح قيدا على حرية الكلام والصحافة ليس موجودا فعلا فى الترسانة التى عندنا ونباهى بها الأمم الفاشلة المتخلفة، فإن ما قاله الرجل للزميلين فى تفسير وتبرير هذه العبارة المدهشة، مدهش ومروع حقا، فهو أضاف أن جنابه مشكورا كان «يحلم بإلغاء عقوبة الحبس ضد الصحفيين فى قضايا النشر والاكتفاء بالغرامة إضافة إلى العقوبات التأديبية التى تفرضها النقابة وهى تتدرج من الإنذار إلى المنع (المؤقت) من مزاولة المهنة (وتصل إلى المنع النهائى) والشطب من جداول النقابة»، هذا كان حلم سيادته، وتلك كانت رؤيته قبل أن يسبح فى نعيم السلطة، لكنه بعد قليل من السباحة اكتشف أن «تلك العقوبات ليست كافية لإصلاح الصحافة»! لماذا يا معالى القاضى العادل؟ يقول لك فورا وبيقين وثقة: لأن «الصحافة كاذبة ويحكمها سوء الظن وغلبة الهوى، كما أن الإعلام المصرى بشكل عام حالته متردية، ولا بد من العمل (بالقمع) على أن يتجه الإعلام إلى بناء الثقة بين المواطنين بدلا من إحداث الفرقة بينهم»! بصعوبة سأتجاوز عن مشاعر الحزن والصدمة التى أظن أن كُثرا من القراء يشاركوننى الشعور بها بعدما قرؤوا هذه التصريحات، وسأجمل ملاحظاتى عليها فى الآتى: أولا- هذه الروح الثأرية وتلك النبرة العدائية وذاك الضيق الشديد من حرية الكلام عموما وحرية التعبير والصحافة خصوصا الذى بدا ينضح من كلمات قاضٍ فاضل يراكم خلفه تاريخ مشرف فى الدفاع عن حقوق وحريات الناس، أمر حيرنى وأثار استغرابى ولم أجد له سببا معقولا إلا أن السلطة بنوعها الحالى (فاشلة ومعادية للحريات والحقوق الإنسانية أصلا) ربما تجعل البعض يرتج ويرتد على نفسه، فيقف فى خندق طالما خاض ضده معارك وحروب الشرف. ثانيا- كنت أتوقع من معالى المستشار الوزير أن يبحث ويعكف على صنع تشريع يمنع زملاءه فى الحكومة «من الكذب»، لأن عقاب الصحف والصحفيين لو كذبوا أسهل وأيسر كثيرا، يكفى أن تفحم هؤلاء بالحقائق الموثقة (كما يحدث فى كل بلدان الدنيا المتحضرة) فيخسرون المصداقية وهى أثمن ما يملكون. ثالثا- روعتنى صياغات التعميم التى استخدمها المستشار مكى فى التشهير ب«كل» وسائل الصحافة والإعلام، واستسهال دمغها جميعا ب«الكذب» وما سماه «سوء الظن وغلبة الهوى»، فالحقيقة التى يجب أن لا تخفى على قاض جليل مثله أنه لا يوجد «إعلام واحد موحد» على احترام أصول وقواعد الأدب والأخلاق التى تفرضها الحكومات، هذا النوع موجود فقط فى الدول التعبانة التى تحكمها نظم فاشية وديكتاتورية، أما البلدان والمجتمعات التى يتمتع أهلها بالحرية والديمقراطية، فالإعلام فيها متعدد ومتنوع مهنيا وسياسيا، بحيث يستحيل لمه وجمعه كله فى سلة أو «قفة» واحدة، فضلا عن إصدار حكم عقاب جماعى بحق كل مكوناته. رابعا- سيادة الوزير يعرف أكيد، بل هو مؤهل بحكم علمه القانونى الواسع، أن يدرس لنا ويفهمنا حقيقة أن القيود على حريات التعبير والصحافة ليست مفروضة على «الصحفيين» وحدهم وإنما كل النصوص القانونية التى تحملها تخاطب وتنطبق على عموم الناس، سواء كانوا من الصحفيين أو من غيرهم (هناك قراء حُبسوا لأنهم استخدموا حق الشكوى فى الصحف)، ومن ثم فعجيب وغريب جدا أن يستخدم معالى الوزير القاضى عبارة «عقوبة حبس الصحفيين فى قضايا النشر»، فهذه القضايا قد يقع فى أفخاخها أى مواطن إذا تجرأ واستخدم أى وسيلة تعبير علنية، بما فيها الصحافة و«الجهر بالصياح (الهتاف) والغناء» وخلافه.. هذا ما يقوله نص مشهور فى قانون العقوبات (!!) إذن لا معنى لإصرار المستشار مكى على حصر القضية فى الصحفيين سوى أن سيادته يريد الإيحاء بأن هؤلاء يسعون للتميز عن باقى خلق الله وأن يضعوا «ريشة على رؤوسهم»، كما كان يقول المخلوع أفندى، وكما قال مؤخرا فضيلة المتحدث الرسمى باسم «جماعة الإخوان» التى يعمل سيادة الوزير المستشار فى حكومة جنابها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.