الكارثة الأكبر التى جنيناها من زواج القربى بين الوطنيين الراديكاليين والإسلامجية، هى أن كليهما لا يضع المعرفة فى مرتبة متقدمة من اهتماماته، أو، لنكون أكثر دقة، فإن كليهما يعتبر المعرفة وسيلة إلى إثبات ما يعتقد فيه مسبقًا، وما يخدم الغاية الحتمية التى يعتقد أن المجتمع «لا بد» أن يصل إليها. هذه وظيفة المعرفة. هذه الوظيفة الوحيدة للمعرفة. وعليه، إن كانت المعرفة تضر بهذا الغرض فلتنضم غير مأسوف عليها إلى قائمة الضحايا. الدولة الوطنية الراديكالية التى أسسها عبد الناصر -مثلا- نشرت كتابات تقدمية عن الدين، ليس لأنها مؤمنة بأن الاجتهاد فى الدين، وتحقيقه، والتخلص من الخزعبلى من أفكاره التى تراكمت على مر العصور أمر لا بد منه لكى تتقدم الأمة، وتتخلص من القيود التى فرضتها عهود التخلف. لا. بل كانت تنشر كتابات تقدمية عن الدين لأنها تخدم غرضها فى هزيمة الإسلامجية كأعداء سياسيين. هذا هو الغرض الأول والأخير. المبتدأ والمنتهى. وعليه، بمجرد أن انكسرت الدولة الوطنية الراديكالية، دولة يوليو، دولة الحرب الشاملة، بعد هزيمة 1967 الساحقة المهينة. بمجرد أن قرر فصيل منها، تحت قيادة السادات، تأسيس الدولة المختلطة، دولة الحرب والسلام، دولة العلم والإيمان، دولة الرئيس والمؤمن، بمجرد أن حدث «الزواج الثانى» عام 1971 بين العسكريين والإسلامجية كانت هذه المعرفة النقدية أبخس الضحايا ثمنًا. ورضخت دولة يوليو المعدلة لأى احتجاج من الإسلامجية على كتاب نقدى، أو كتاب ينتمى إلى مذهب غير المذهب السائد، ثم أى كتاب فيه شبهة نقد، ثم أى كتاب فيه ولو شبهة لفظ «خارج» أو مشهد «خارج». ناهيك بالكتب العلمية المُحكمة التى «يُخشى» أن تثير الأسئلة عن «الثوابت». هل من احتقار للعلم والمعرفة أكثر من ذلك، يا من تقولون إن «أحدًا لا يقترب من العلم ولا يقف فى وجهه». ثم جاءت دولة مبارك لكى تمحو المعرفة الرصينة وتنشر بدلا منها كتب المئة الثالثة بعد الهجرة، بل نوعًا خاصا من تلك الكتب، النوع الذى وافق هوى السلطة القائمة. أقول هذا وقد صعدت أمريكا إلى المريخ وحلَّت عليه و«احتلته». إن فى ذلك لعبرة لمن كان لها عقل. لمن لا يزال لها عقل تفكر به. إن فى ذلك لدعوة إلى التفكر لمن تحترم نفسها وتحترم حياتها وتحترم «إيمانها» فتفكر فيه قبل أن تعلنه تمتماتٍ وأذكارًا، وتقارن تفاصيل هذا الإيمان «المفكِّر» بما استقر فى ذهنها من معارف أسبغوا عليها لفظ «عقيدة» ثم أضافوا إليها الألف واللام الضالة المُضلة فصارت «العقيدة». وكأنها النموذج الواحد والوحيد. وما هى إلا عقيدة الإسلامجية المصريين، وهم طور يمثل طفرة ارتدادية فى تطور الإنسان عامة، والمصرى خاصة. طور اضمحل فيه العقل إلى ما يشبه «الزائدة العقلية». اقرأ فى كتاب بعنوان «أبو هريرة- شيخ المضيرة»، لكاتبه الأستاذ محمود أبو رية. وأتعجب أن كتابًا كهذا صدر يومًا عن «دار المعارف» المصرية. والكتاب يتناول بنظرة تحقيقية الأخبار عن حياة الصحابى أبى هريرة، الذى أخذ مسلمون قديمًا معظم دينهم من الأحاديث التى رواها، وأورثوها لنا. فهو أشهر رواة الأحاديث قاطبة. لن أعيد عليك ما فى الكتاب، فليست هذه طريقتى ولا طريقة التيار الذى أنتمى إليه، «التيار الليبرالى المصرى»، إذ نحن ندعو الناس إلى المعرفة والبحث، ولا نملى عليهم الاعتقاد بشىء معين. لكننى سأثير معك عددًا من الأسئلة التمهيدية أرجو منك أن تتفكرى فيها بشأن الصحابى الذى ورثنا عنه معظم الصورة الحالية من الدين. 1- ما الاسم الحقيقى لأبى هريرة؟ 2- متى قَدِم إلى المدينة مسلمًا؟ 3- كم عامًا رافق النبى على أقصى تقدير؟ وكم على أقل تقدير؟ 4- كيف كان يتكسب عيشه؟ ابحثى عن إجابات، من أكثر من مصدر، بل ابحثى عن «المعلومات» وليس عن «وجهات النظر» من أى مصدر. ثم تفكرى فى الأمر. وتفكرى من فضلك فى دلالة أنك -كما أنا- لم تكونى تعرفين ولم تشغلى بالك، حتى وأنت تتلقين معظم دينك عنه. أقول قولى هذا وأستغفره لى ولكِ.