المتحف يمثل فرصة ذهبية لعلماء النفس والمهتمين بدراسة الاضطرابات العقلية بأنواعها، حيث يقدم معلومات وفيرة لدراسة جوانب مخفية من شخصيات القتلة. على شاطئ المحيط الأطلنطى فى مدينة هايستينجس التاريخية فى إنجلترا، تلك المدينة التى اشتهرت عبر تاريخها بالمهربين والقراصنة، ويزخر تاريخها بقصص الأشباح والحكايات الأسطورية، يقع متحف الجريمة الحقيقية. ففي إحدى البنايات القديمة فى الطابق الأرضي، وُضعت الأشرطة الصفراء التى تحذر من الاقتراب لوجود جريمة، مع واجهة زجاجية وضعت بداخلها بعض الهياكل العظمية والجماجم، وتماثيل ورقية لمجموعة من شخصيات القتلة الشريرة التى ظهرت فى الأفلام الشهيرة. وقفت مترددة مرة أخري، فمنذ سنوات بعيدة كنت أسمع عن متحف الجريمة، ولم تلق الفكرة قبولي، فأنا لا أعتقد أن المجرمين ينبغى أن يذكروا بأى شكل، لا يستحقون سوى أن يطويهم النسيان، ولكن فى النهاية انتصر الفضول الصحفي، وحجزت تذكرة لجولة داخل المتحف الغريب. تم تصميم المتحف كمكان مناسب لحدوث الجريمة، أو بالأحرى مسرح حى لها، فعلى النقيض من رحابة المحيط فى الخارج، يجد الزائر نفسه داخل ما يشبه قبواً بارداً، أو ربما كهف حجرى بجدران أسمنتية بإضاءة خافتة بلا نوافذ، لتعطى إحساساً بالتوتر، وتضفى أجواء تناسب طبيعة المكان.. فى لوحة معلقة فى مدخل المتحف، كتبت عليها بعض من أهدافه منها إلقاء الضوء على الجانب المظلم من النفس الإنسانية، من أجل فهم أكثر عمقاً، وأن يكون مكاناً للمهتمين بعلم الجريمة، وكذلك تكريم الضحايا إلخ! ◄ القرد الضحية في استقبالك أول ما يقابلك هو مشاهد قسوة البشر على المخلوقات الضعيفة، ربما فى إشارة إلى أن القسوة على أحد الكائنات الحية علامة حمراء، على أننا أمام نفس مضطربة قاسية تميل للإجرام، وتم وضع عرض تاريخى للرياضات القاسية التى اخترعها البشر، واستخدموا فيها تعذيب الحيوانات لبعضها البعض كوسيلة للتسلية، مثلما كان يحدث فى الرهانات على الحيوانات فى منطقة ويستمنستر، حيث كانت تتصارع الحيوانات، ويراهن الناس بمبالغ كبيرة على الحيوان الذى سيبقى فى النهاية. تلك الرهانات التى وصفها الأديب تشارلز ديكينز بأنها «مركز الشيطان»، وقد كان جاكو قرداً سيئ الحظ، قام بعض الأشخاص الذين قاموا بإحضاره من إفريقيا، فتم وضعه ليصارع الكلاب المتوحشة فى الرهانات، وكان ذلك فى عام 1822، وتشير القصص إلى أن القرد صارع بشجاعة 13 كلباً حتى سقط فى النهاية، وبعدها بفترة فى عام 1930، تكونت جماعات ضد الوحشية تجاه الحيوانات، وتم إغلاق صالات الرهان الدموية، وتم سجن المسئول عن تعذيب القرد، من بين من ألقى القبض عليهم، وتمت كتابة عبارات الثناء لأولئك الذين كافحوا حتى أصبح هذا السلوك مجرماً قانوناً. وتعد سمة أساسية فى طريقة العرض داخل المتحف، أنه فى الركن المتعلق بكل جريمة، توضع صور الضحايا وسط الورود مع معلومات عنهم، والكلمات الجميلة التى قالها محبوهم فى رثائهم، بينما يحدث العكس مع المجرمين الذين يوضعون بشكل متدنٍ، وبجوارهم العبارات التى تصف بشاعتهم واضطراباتهم، سواء كان قائلوها الأطباء النفسيون، أو ضحايا نجوا من براثنهم، أو من عرفوهم... إلخ، فهو توضيح مهم للعالم، ليصف كم كان المجرم شريراً ودنيئاً، لن يفتقده العالم. وبالرغم من ضيق مساحة المتحف، إلا أنه ثري، ومعروضاته متنوعة، من بينها الأدوات التى كان يستخدمها القاتل المأجور جون شيلد، والذى كان يعود إلى زوجته وابنتيه بعد إتمام جرائمه البشعة وكأنه لم يفعل شيئاً، ولم تصدق زوجته جرائمه إلا بعد أن تأكدت إدانته، وقتها فقط طلبت الطلاق! وكذلك متعلقات لأشهر قاتلة رُضع عرفها التاريخ، وهى أميليا داير، وقد حصل المتحف على بعض المتعلقات لها من مزاد علني، تلك السيدة التى ظلت ترتكب جرائم القتل لسنوات طويلة فى عهد الملكة فيكتوريا.. كما يعرض المتحف أيضاً متعلقات للقاتلة روز ويستيز، والتى كانت تقوم بارتكاب الجرائم بمشاركة زوجها. والحقيقة أن المتحف يمثل فرصة ذهبية لعلماء النفس والمهتمين بدراسة الاضطرابات العقلية بأنواعها، حيث يقدم معلومات وفيرة لدراسة جوانب مخفية من شخصيات القتلة، مثل ريتشارد راميز القاتل الأمريكى المتسلسل، وكيف تحول من شخص يكتب رسائل غرامية إلى شخص شرير ارتكب عدداً كبيراً من الجرائم، حتى وصلت أحكام الإعدام إلى خمسة عشر حكماً، ونفس الشيء بالنسبة لروز ويستيز، حيث هناك اعتقاد بأن السبل البدائية التى كانت تستخدمها أمها من أجل الحمل قد أدت إلى حدوث تلف فى المخ، وكان ذلك واحداً من الأسباب التى أوصلتها لما آلت إليه.. وفى غرفة الموت بالمتحف، وضعت بعض من أدوات الإعدام مع شرح عمل كل طريقة وتاريخها، حيث يعرض حبل المشنقة، وكرسى الموت، وسرير الإعدام. وجهاً لوجه مع القتلة فى غرفة الوسائط المتعددة، وضعت فيديوهات لمجموعة من المجرمين، وهم يعترفون بجرائمهم، وتمثل هذه الغرفة اهتماماً خاصاً للمهتمين بالطب النفسى وعلم الجريمة، وكذلك للمفتشين الجنائيين، حيث يشرحون فيها كيف خططوا للجريمة، بحيث لا يتم كشفها، وما الذى كان يدور برءوسهم، باختصار كل شيء منذ أن كان الأمر مجرد فكرة حتى تنفيذ الجريمة! والحقيقة أن المجرمين الذين يلقى عليهم المتحف الضوء هم من أصحاب العقول شديدة السواد، التى تجعلك تظن أن الجرائم التى ارتكبوها غير ممكنة، حتى بعد مشاهدتها بعينيك! وربما تكون لهذه الغرفة أهمية خاصة لكل من يفكر فى ارتكاب جريمة، لأنه سيدرك أن كل جريمة لابد أن تنكشف، وأن الجريمة الكاملة شيء مستحيل، والدليل أن عتاة الإجرام ها هم أمامه، وقد افتضح أمرهم فى النهاية! أمام غرفة السموم، وقفت مذهولة من كم الحقن المختلفة، والزجاجات المتنوعة، كنت أشعر بالاختناق وأريد أن أخرج، ولكننى ألقيت نظرة أخيرة على متعلقات الدكتور جون بودكن، الذى كان يعيش فى منطقة ايستبورن، بالقرب من مكان المتحف، ويعتبر من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل، فالبعض يراه شريراً قاتلاً، بينما يؤمن بعض الناس فى المنطقة بأنه بفضل مهاراته الطبية عاش بعض من أجدادهم سنوات أطول، ولكن الغالبية بما فيها أسرة المتحف، والقاضى الذى حاكمه، يرون أنه القاتل الذى استطاع أن يفلت من العقوبة! وقد كان مرضى الطبيب الشهير من الأثرياء كبار السن، والغريب أن جميع هؤلاء المرضى الذين اتهم بقتلهم، وعددهم 160، كانوا يغيرون وصاياهم فى أيامهم الأخيرة ليضيفوه إلى قائمة الورثة، وقد قدم للعدالة بعدما اتهمه أقارب مرضاه بقتلهم، ولكن كان إثبات التهم شديد الصعوبة، حيث برر كتابة الوصايا له بأنه كان يرفض تقاضى مقابلاً للعلاج! أمام باب الخروج وقفت السيدة اللطيفة فى الاستقبال تعرض على هدايا تذكارية، من عينة قرط ذهبى على شكل مسدس، أو قلادة معلق فيها جمجمة صغيرة، وحينما يئست عرضت على سواراً رخيص الثمن على شكل أصفاد (كلابش). ولم أجد طريقة للتخلص من إلحاحها مع كثرة المعروضات، سوى أن أخبرها بأن الهدايا الوحيدة التى يمكن أن أقبلها منها هى الهدايا المجانية، فودعتنى بابتسامة جميلة، وشرحت لى طريقة فتح باب الخروج.