في الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر الكبير فاروق شوشة، عاشق اللغة العربية يقول د. محروس بُرَيِّك "أستاذ بجامعة القاهرة" في حوار خاص ل بوابة أخبار اليوم" وُلد فاروق شوشة حيث ملتقى البحر والنهر؛ البحر باصطخابه واضطرابه وغموضه وعنفوانه، والنيل بهدوئه ورقّته وعذوبته وصفائه وكبريائه، لكن فاروق شوشة آثر الهدوء على الاصطخاب، والعذوبة على الاضطراب، والصفاء على الغموض؛ فأنت تستمع إليه عبر أثير الإذاعة والتليفزيون فيبعث في نفسك الشجى والشجن، بصوته الرخيم العذب، ثم تلقاه وجهًا لوجه فلا يزيدك حديثه العادي إلا شَجْوًا وشجنًا، فهو شاعر مُفعَم بالشاعرية في الحالين كليهما، وتلك سمة قلما تجتمع في إنسان فضلا عن أن تجتمع في شاعر؛ إذ الشعرُ مَظِنّة الترفع والاندفاع والتعالي، لكن فاروق شوشة كان من أولئك القلة من الشعراء الذين يفيضون هدوءًا ورِقةً وتواضعًا، كما يفيض النيل الذي خصص له فاروق شوشة ديوانًا كاملا من دواوينه الشعرية. كل أولئك كان سببًا في أن يسلك فاروق شوشة دربًا جديدًا في إلقاء الشعر، لا صخَب فيه ولا ضجيج ولا قعقعة ولا خَطابية، بل تنسال الأبيات على لسانه هادئة وادعةً مطمئنةً، وقد كنّا نحسب أن تلك السمات في إلقاء الشعر تلائم بعض أغراض الشعر دون بعض؛ فالوداعة والهدوء تلائم الغزل والوصف والاعتذار، في حين أن الفخر والمدح والهجاء لا يلائمها إلا الصوت المتوهّج الصاخب؛ كنّا نحسب ذلك حتى جاء فاروق شوشة فقوّض تلك الفرضية، فهو يسير على نمطه الهادئ الوادع المطمئن في كل ما يلقي من شعر، فيملأ عليك نفسك ويُذهلك بعذوبة صوته وتجسيده للمعاني الصاخبة بأهدأ إيقاع دون جلَبة واصطخاب، وذلك مما لم يتيسر إلا لفاروق شوشة ومن سار على نهجه مقلدًا له. لقد كنّا نرهف السمع إلى صوت فاروق شوشة كل ليلة في قُرانا الغافية في هدوء المساء، وصوته العذب وإلقاؤه الهادئ المطمئن يَنْسرِب من بين خفايا الليل، فيغمر أرواحنا بنشوة روحية لا تصفها الكلمات، يتردد صوت فاروق شوشة الوادع الهادئ المطمئن قاطعًا صمت الليل في القرية فيعرج بنا في معارجَ خفية ترقى بها أفئدتنا وأرواحنا إلى مدارات الجمال، فنشعر بشيء هو أشبه شيء بالسحر، يجسد لنا المعاني والأحداث بإلقائه الشاعري، ويرسم لنا ملامح الأشخاص؛ فرسمنا من خلال صوت فاروق شوشة ملامح الشعر والشعراء عبر العصور، من عنترة بن شداد وابنة عمه عبلة، مرورًا بقيس وليلى، وابن زيدون وولادة بنت المستكفي، وانتهاء بآمال الشعراء وآلامهم في القرن العشرين، وأوطاننا العربية في انكساراتها وانتصاراتها. لم يكن هذا الهدوء وتلك الوَدَاعة ديدن فاروق شوشة في أدبه وإلقائه وطبقة صوته فحسب، بل كان ذلك كله منهجًا ارتضاه لنفسه في حياته، فعاش راضيًا مطمئنًا، لا ينازع أحدًا في وظيفة أو مكانة، يبتعد عن مواطن العداوة والاصطخاب، بلغ ما بلغه من مكانة أدبية ووظيفية وإدارية، وأدار مؤسسات كبرى، فما ترك خلفه صاحب مظلمة ولا عدوًّا ولا حاقدًا، لقد أخلص لفنه وأدبه، وقضى عمره ينثر من حوله الأدب والخير والجمال، فترك لنا طريقة فريدة في إلقاء الشعر، وإرثًا أدبيًّا وإذاعيًّا وإنسانيًّا لا تنطفئ جذوة جماله مع مرور الأيام. اقرأ أيضًا| د.مصطفى يوسف: فاروق شوشة مُعْجَمِيٌّ من الطراز النادر| خاص