كيف أصدق أننى يمكن أن أعيش سبعمائة وعشرين دقيقة دون أن يدق جرس الهاتف الذى يرقد أمامى جثة هامدة. تجربة فريدة تلك التى عشتها منذ أيام حيث قضيت اثنتى عشرة ساعة بدون كلام، بدأت الساعات الفريدة هذه من فجر الثلاثاء وحتى قبيل المغرب. نصف يوم لا أتحدث مع أحد وإذا كلمنى أحد لا أستمع له، ليس تجاهلاً لا سمح الله، ولكن أصابنى نوع غريب من الصمم لدرجة أن من يجلس بجوارى كان لا يكتفى بلغة الكلام حتى ألتفت له،بل يحتاج لأن يهزنى قليلاً حتى أنتبه لما يريد أن يقول، فإذا فهمت نفذت ما يطلبه منى بشكل آلى لا روح فيه ولا حياة. للوهلة الأولى ظننت أننى ربما أكون قد انتقلت من هذه الحياة الدنيا للحياة الباقية التى لا فناء فيها ولا عدم، وإلا كيف أفسر لنفسى أننى سوف أقضى بداخل هذا الصندوق المغلق كل هذا الوقت بدون موبايل أو سوشيال ميديا، بدون تليفزيون ولا نشرات أخبار بائسة كلها معاناة فلسطين وأهلها. كما تضطرك إلى رؤية وجوه كريهة أمثال نتيناهو ورفاقه الذين يعيثون فى الأرض فسادا بلا رادع يحقق على الأقل التوازن وليس العدل الذى نثق أنه قادم وإن تأخر لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي. نصف يوم دون أن أتصفح حساباتى على تويتر والفيس بوك والإنستجرام. كل هذه الساعات دون مطالعة تفاهات الفيس بوك وأخواته وخناقات مشجعى الأهلى والزمالك وتصريحات إلهام شاهين وفيديوهات الباحثين عن الشهرة بأى ثمن؟! كيف أصدق أننى يمكن أن أعيش سبعمائة وعشرين دقيقة دون أن يدق جرس الهاتف الذى يرقد أمامى جثة هامدة لا تغشاها نبضة رسالة واتس آب ولا إشارة على الماسنجر ولا حتى مكالمة عادية؟ هل يصمد هذا المحمول طيلة هذه الساعات صامتاً وهو الذى لا يكف عن الضجيج والقعقعة التى غالباً تكون بلا طحن؟ كيف يمكن أن تمر كل تلك الساعات وليس عندى خبر عن أحوال أهلى وأصدقائى وأحبابى الذين تركتهم خلفي؟ هل أتى عليّ-قبل هذه التجربة-حينُ من الدهر لم أسمع فيه صوت الصغار منذ أن جاءوا إلى الدنيا؟ هل حقاً سأقضى أخيراً كل هذه الساعات دون تلك المطاردة من شركات عقارات تغرينى بأن لديهم شققا تناسبنى وتناسب غيرى من الناس بأسعار تبدأ فقط بخمسة ملايين جنيه؟! اثنتا عشرة ساعة كاملة منذ أن طلب الطيار أن نغلق هواتفنا استعداداً للإقلاع، لو كانت تلك الحديدة تنطق لقالت لى فى تلك اللحظة: أخيرا ستمنحنى إجازة لطالما طلبتها منك دون أن تعيرنى اهتماماً، لذا أنا الآن شامتة فيك واعذرنى إن لم أستطع إخفاء مشاعرى احتراماً لمشاعر الحزن التى أثق أنها تعتريك الآن، ألم يكن الأفضل لى ولك أن تستجيب لى وترحمنى قليلاً بإرادتك بدلاً من أن تفعلها مرغماً كما هو الحال الآن؟! لماذا فضلت سياسة الأمر الواقع وكانت لديك الفرصة للمبادرة بالقرار وإلى متى التردد والعمر يا صديقى قاب قوسين أو أدنى من خط النهاية. صعدت الطائرة إلى أعلى قدر ما سمحت به الظروف المناخية وأطفأ قائدها الأنوار ونام الجميع وبقيت مع هواجسي. كنت جالساً على كرسى بجوار الممر فلا يستطيع من بجوارى أن يخرج دون أن أفسح له. هزنى بكلتا يديه حتى أفيق وبدا من انفعالاته أن الرجل حاول كثيراً أن ينبهنى بالطرق الودية دون جدوي، اعتذرت للرجل بالإشارة إذ ربما يعذرنى لو ظن أنى أصم. وقد كنت كذلك لدرجة أننى كنت أحدث نفسى بصوت مرتفع لأتأكد أين أنا وهل لازلت على قيد الحياة أم أننى بدأت رحلتى نحو البرزخ! انتهت الإثنتا عشرة ساعة الفريدة من نوعها واستيقظت لأجد نفسى فى مطار كنيدى بنيويورك. لم أنتظر إنهاء إجراءات الدخول بل أعدت تشغيل الموبايل وأنا فى طوابير الجوازات. بعد أقل من فيمتو ثانية دق جرس الموبايل، سارعت بالرد فجاءنى صوت صديق مصرى مقيم فى أمريكا قائلاً: ما الذى جاء بك يا صديقي؟! لقد اندلعت الحرب من لحظات وإيران ترشق إسرائيل بالصواريخ، اسمع لنصيحتى «لف وارجع» و عُد من حيثُ أتيت وعلى نفس الطائرة! وللحديث بقية