تضعك القصة فى قلب هذا العالم بحبكة دقيقة، مدروسة، إيقاع محسوب ببراعة، مرتبط بالقصة والصراع وتصاعد الأحداث تسللت أحداث هذا الفيلم المبهر ومشاهده العميقة لتسكن خلايا قلبى وعقلى معا، رغم الضجة الكبيرة التى صاحبت نزوله دور العرض السينمائى فى مصر نهاية عام 2023، وحصوله على جوائز مهمة عربية ودولية، لم أكن قد شاهدته حتى الأسبوع الماضى. عشت مع «وداعًا جوليا» لأفاجأ بفيلم عالمى بامتياز، القصة والإخراج للمخرج السودانى محمد الكردفانى، البطولة للممثلة والمغنية السودانية إيمان يوسف، والممثل السودانى نزار جمعة، والممثلة وعارضة الأزياء السودانية سيران رياك. براعة الفكرة تكمن فى تقديم مأساة السودان وصراعاتها السياسية التى أدت إلى التقسيم، وانفصال الشمال عن الجنوب، من منظور فنى، عميق، رائق، بعيدًا تماما عن السياسة والمباشرة. لكن من خلال قصة إنسانية شديدة العذوبة، تنطق تفاصيلها بالصدق والألم. أطراف القصة سودانيون بعضهم من الشمال وبعضهم من الجنوب، تدور الأحداث فى الفترة الصعبة التى سبقت قرار الانفصال، لتقول لنا إن الانفصال كان قائما بالفعل إنسانيا قبل أن يتم تنفيذه سياسيا وجغرافيا على أرض الواقع، التفرقة بين الجنوبيين، وتعامل الشماليين مع أبناء وطنهم الجنوبيين باعتبارهم عبيدا، لا تساوى حياة أحدهم شيئا، يقتلونهم بقلب بارد، ثم يذهبون للصلاة، وكأن هذا الذى قتل لا أحد! تضعك القصة فى قلب هذا العالم بحبكة دقيقة، مدروسة، إيقاع محسوب ببراعة، مرتبط بالقصة والصراع وتصاعد الأحداث، أداء رائع لكل الممثلين، كذلك الكادرات الرمزية التى اختارها المخرج باحترافية وإحساس عال، مثل المشهد المتكرر لسقف بيت منى وأكرم الذين يمثلون الطبقة الغنية من الشماليين والذى نراه مكسورا فى جزء منه، يسرب المياه لتنزل على أرضية البيت، لا يصلحون هذا العطب رغم أنهم يملكون المال لذلك، ويكتفون بوضع جردل لتتجمع نقاط الماء المنسابة منه. مع تتابع الأحداث ندرك أن هذا الكادر مقصود ويرمز إلى شيئين فى وقت واحد، الأول أن هذا البيت الأنيق، غير مستقر، معرض للانهيار فى أى لحظة نتيجة العلاقة المرتبكة بين الزوجين، والتى يحكمها الخوف والكذبة التى تولد كذبا كثيرا من قبل منى، مبررها الأخلاقى الذى تخلقه ليهون عليها ما تفعله هو الخوف من أن تفقد زوجها وبيتها. أما الرمزية الثانية فى ذلك المشهد فهى الدمار الذى حل بالسودان كله، وتحوله إلى شظايا متناثرة من الطوائف والعقائد والجماعات أدت به إلى هذا الوضع الكارثى الذى يعيشه أهلها الآن. أنا حريصة على عدم حرق الفيلم لأنى فعلا أرشحه بقوة لكل من لم يشاهده بعد، فهو من نوعية الأفلام التى تبقى فى الذاكرة طويلا، تجد مشهدًا أو لقطة معينة تقفز إلى ذهنك وأنت ماض فى يومك دون تعمد، وهذى هى سمة الأعمال الفنية العظيمة، ولا تغادر فضاءك بمجرد انتهاء مدة العرض، بل تبقى منها أجزاء داخلك لا تبارحك ربما لسنوات. من أجمل العناصر السينمائية فى الفيلم الأغنية التى جسدت الفكرة بإحساس عال: (البخوف فى البداية.. إنه يوم حنشوف نهاية.. لا قدرت أعيش بلاك.. لا قدرت تكون معايا عشانى كنت بتتعلم.. متين وكيف تختار هدايا.. بكلمة واحدة تتغزل.. بشوفها زى حكاية قول لى كيف.. تانى يعدى على خريف.. وانت بعيد وما معايا.. بس تجينى طيف شيل معاك الذكريات.. وعذرى الما كفاية.. سيب لى بسمة اشوفها.. لما بتكلم فى المراية راحت وعود.. مفروشة خطاك بالافراح ورود.. بمشيها خطاى براي.. فى سكة ما ليها حدود البخوف فى النهاية.. لما نطراها البداية.. ألقى نفسى بعيش بلاك.. وانت ما جنبى ومعايا). فاز الفيلم ب14 جائزة، وعرض فى العديد من الدول العربية والأوروبية، كذلك حصل على جائزة الحرية بمهرجان كان السينمائى، كما قد رشح ليمثل السودان فى جوائز الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية. إنه فعلا فيلم يستحق كل هذا عن جدارة. شاهدوه.