عندما يغنى يرسم البهجة على شفاه الملايين، وعندما يقف على خشبة المسرح يخطف الأضواء، ولهذا كان محقا عندما غنى منذ 30 عاما «أضواء نيون الإعلانات أنا»، هو عمرو دياب أسطورة الأغنية المصرية الحديثة، وأكثر مطرب عربى ترجمت أغانيه للغات عالمية، ماذا أيضا؟ هو صاحب أعلى حضور جماهيرى فى حفلات مهرجان العلمين الجديدة حتى الآن، حيث أحيا أمس حفلا هو الأضخم فى المهرجان على مسرح أرينا العلمين وسط حضور جماهيرى غير مسبوق، يثبت كالعادة أن عمرو دياب المتجدد يبنى جمهوره جيلا بعد جيل ويحتفظ فى رصيده بمحبة ممتدة بين المصريين والعرب على مدار 40 عاما. غنى عمرو دياب فى العلمين الجديدة، وضع بصمة صوته على قطعة جديدة وغالية من أرض مصر، وشارك فى مهرجان يرسم جزءا من أحلام وطن يبنى نفسه من جديد، وطن متجدد مثل أغانى عمرو التى عشت معها فى حفلاته من العجمى وبيانكى ومارينا وصولا إلى العلمين الجديدة، رسم عمرو دياب ذكريات صيفنا بامتداد سواحل مصر الشمالية، فى التسعينيات رقصنا معه على أنغام نور العين فى العجمي، وفى الألفينات صفقنا مع ليلى نهارى فى مارينا، والآن نغنى نحن وأبناؤنا معه «الكلام ليك انت» و»ياقمر» و»يا أنا يا لأ». يبقى عمرو دياب شريك الذكريات الجميلة، صديق المراهقة الذى قلدنا ملابسه، تسريحة شعره، حزامه الجلدى المرصع بالكباسين المعدنية، فى إحدى الصور من عيد ميلاد أخى ظهرت مرتديا حزامًا أسود مدججا بالكباسين الحديدية، وقميصا مزركشا بكل ألوان الطيف، أغلقت آخر أزراره عند الياقة، هو بلا شك تأثير عمرو دياب. أتأمل الصورة فأدير أغنية «أيامنا» وأسمع ما كتبه مجدى النجار ولحنه عمرو دياب فى زمن كان الاكتشاف والتجديد فيه أمرا سهلًا، قبلها بعام أعاد عمرو دياب عازف الساكس سمير سرور للأضواء عندما اختطفه من الماضى ليعزف الصولو الشهير فى أغنية «حبيبي»، جاء سمير من أغنيات العندليب وأم كلثوم ليلون كليبات عمرو دياب بالأبيض والأسود، اكتشاف النوستالجيا بدأ مبكرًا قبل أن نخترع هذا المصطلح الحديث، أحب عبارة «الحنين للماضي» أكثر، المصرى يحن للماضى بطبعه. فى صيف 1992 وجدت نفسى جالسًا على كرسى الحلاق وفى يدى غلاف ألبوم «أيامنا»، طلبت منه أن يخترع «سوالف» عمرو دياب حتى وإن لم تنبت بعد، فعلها الحلاق وبدت خفيفة كطيف، بعد أشهر قليلة سار كل شباب مصر وسوالفهم تصل إلى ركبهم، قبل أن يعيد عمرو أيضا موضة البنطلون «الشارلستون» بعدها بسنوات، ونسير حاملين فى كعوبنا مكانس يدوية للأرصفة، أحسبها الموضة الوحيدة التى أعجب بها آباؤنا لأننا ذكرناهم بشبابهم، حنين للماضى أيضا. يغنى عمرو: «اتقال كلام علينا واتقال الشوق نسينا». كم مرة أحببنا وحشر الناس أنوفهم فى قصصنا ليسألوا، على طريقة فيروز «حبوا بعضن أم تركوا بعضن ؟»، فتجد نفسك متورطًا فى الرد على كل الأسئلة بجملة واحدة: وأنت مال أهلك يا أخي. لم أحب فى مراهقتي، قُل لم أجد من أحبه فى مراهقتي، فأحببت كل أغانى عمرو دياب التى ترسم لى صورة جاهزة لحبيب قوى يتمرد على الوضع الحالى أومش هيضعف تانى قصادها ويبص وراه. فى ألبوم «أيامنا» عاد عمرو دياب للتعاون مع حميد الشاعرى بعد فترة توقف قصيرة فرضها قرار نقابة الموسقيين بإيقاف الأخير عن العمل، كان حسام حسنى الاختيار الأقرب إلى روح حميد فى ألبوم «حبيبي» وأغانى فيلم «ايس كريم فى جليم». ولكن صاحب ظاهرة «موسيقى الجيل» عاد ليصنع مزيجًا من الروح الشرقية والتكنولوجيا التى تفرد بها وقتها، يقول البعض إن بصمة حميد كانت مختبئة فى توزيعات حسام حسني، وتطرف البعض ونسبها لحميد الذى قال فى حوار لمجلة أخبار النجوم سنة 1995 إنه كان يوزع بعض الأغانى ويضع أسماء زملاء آخرين عليها لكى «يأكل عيش» فى فترة الإيقاف! تصريح رسخ للفكرة التى أكدها حسام حسنى فيما بعد عندما توارى تمامًا كموزع مع نهاية التسعينيات، ولكن الحقيقة الأهم أن كثيرين ظهروا فيما بعد ليقلدوا عمرو دياب وحميد الشاعري، تحول «الساكس فون» لتيمة فى أغلب أغانى المطربين، وفكر الجميع فى تصوير الكليبات بتقنية السينما بعدما قدم عمرو دياب مدير التصوير الرائع طارق التلمسانى كمخرج لأغنية «الماضي». اقرأأ يضا| اليوم.. عمرو دياب يحيي حفلاً غنائياً في العلمين الجديدة بنفس المنطق وقبلها بعامين أعاد اكتشاف خيرى بشارة كمخرج لفيلم «ايس كريم فى جليم» فتحول خيرى بعده إلى مخرج لأهم مجموعة من الأفلام الغنائية الشبابية فى مرحلة التسعينيات، شخصية سيف الشاب الباحث عن حلم الغناء بجاكت جلد وبنطلون جينز وموتوسيكل تحول لفتى أحلام المراهقات وقتها وهدف لكل شاب يكتب أحلامه على أيام ضبابية لا يعرف فيها الوطن مستقبلًا واضحًا، فى نفس الفيلم قدم مدحت العدل كمؤلف، تحديدا ككاتب للحوار ليكتب بعدها العدل سلسلة أفلام ناجحة منها «أمريكا شيكا بيكا» مثلًا. يبدو دياب فى مسيرته كجواهرجى شاطر، يكتشف جوهرة أو قطعة ذهب ثمينة يعيد لها البريق وينقش عليها ختمه ثم يبيعها لك لتبقى ضمن مقتنياتك النادرة للأبد، هل تتذكر العبارة إياها «قليل من الأشياء الجميلة وجدت لتبقى»؟ هى كذلك أغانى عمرو التى صنعها فى تلك الحقبة، أغنية قديمة يلقيها عمرو فى إحدى حفلاته دليل عملى على هذه النظرية. فى شتاء 2012 وقفت فى الصفوف الأولى لحفل أحياه بالجامعة الأمريكية، قبل الحفل بساعات سأل دياب جمهوره عبر السوشيال ميديا: ماذا تريدون أن تسمعوا اليوم؟ فوجئ بقائمة طويلة أغلبها أغان قديمة، غنى ليلتها ساعة كاملة ضمت أكثر من ميدلى لأغان بدأت بمتخافيش وشوقنا وامتدت حتى نور العين، رقص شباب لم تتجاوز أعمارهم السابعة عشرة، رددوا الأغانى التى نجحت قبل أن يولدوا ، أما هو فداعبهم مع كل أغنية قائلًا: «دى نزلت قبل ما تتولدوا يابنى انت وهو!». ترددت كثيرًا وأنا أكتب عن عمرو دياب، لا لشيء سوى أن صوته شريك رحلة الواحد منذ عتبات المراهقة حتى منتصف الأربعينيات، كم مرة حلقت شعرك مثله؟ كم مرة ارتديت نفس الحذاء، القميص، البنطلون؟ بالتأكيد تحتفظ فى دولابك ببلوفر «تملى معاك»، أو كاب «أنا عايش ومش عايش»، أتلفت شعرى مرة عندما قمت بفرده ب»الجلات» كى أقلد تسريحته فى كليب «نور العين»، أذكر جيدًا ما كتبته الصحافة عن ثمن «قصة عمرو دياب»، أحدهم «شطح» به الخيال فقال إن عمرو زرع شعره فى لندن مثلما فعل العندليب، حتى خرج دياب فى حوار بمجلة «الشباب» كان عنوانه « تسريحة شعرى ثمنها 15 جنيهًا»، وقتها كان المطرب المصرى الذى لقبوه بالعالمى . قبل أن ينتقل اللقب لميدو- قصة رئيسية فى صحف النميمة ومجلات الفن، حصل عمرو دياب على الميوزيك أوورد للمرة الأولى، مازلت أتذكر السهرة التى أعدها التليفزيون المصرى لعرض حفل الجوائز فى حضور عمرو والموسيقار عمار الشريعى ومعهما يسرا والمذيع ابراهيم الكرداني، ظل الشريعى يلقى قصائد مدح فى موهبة وذكاء واجتهاد عمرو، أظن أنها كانت سعادة حقيقية بانتصار حققه مطرب تحول إلى قدوة لملايين المراهقين والشباب، الحقيقة أن عمرو دياب فعلًا هو آخر مطرب مؤثر فى شخصية جيل، مهما حاول البعض بعده إلا أنها كانت محاولات مفتعلة ومؤقتة لم تستمر طويلًا، هو يملك الذكاء الذى جعله يلتقط مطلعًا يدندنه شقيقه عماد وهو يقول «حبيبى حبيبى يانور العين»، فسأله: سمعت اللحن ده فين؟ فقال: عند ناصر المزداوي. لم يكن شقيق عمرو قريبًا من دائرته الفنية، وهو ذكاء يحسب لعمرو عندما أبعد كل المؤثرات العاطفية عن طريقه، يحكى لى ملحن قدم عشرات الألحان لدياب فى تلك المرحلة: شقيق عمرو لم يقترب من ذوقه الفنى ولا إدارة أعمال ولا حتى علاقاته بالمحيطين به، ولكن عمرو لم يخجل من الإعلان فى لقاء بقناة النيل للمنوعات بعد فوزه بالجائزة أن عماد شقيقه كان سببًا فى انتباهه للحن الأغنية التى كتب كلماتها أحمد شتا ووزعها ناصر المزداوي. بعد نجاح نور العين هاجمت الصحافة عمرو دياب فى ألبوم «عودوني»، الأغنية التى مثلت حالة موسيقية عجيبة وقتها، لم يكن للألبوم «هيد» قوى مثل نور العين وعادة بعد النجاحات المدوية يجب عليك أن تنتظر اللطمات وتتقبلها بهدوء، هكذا توقع عمرو ما تخبئه له الصحافة فى «عودونى». غاب عمرو قبلها لمدة عامين بحثًا عن استثمار لنور العين فقدم نسخة إنجليزية «عجيبة» للأغنية، غناها بلهجة ركيكة وصدر ألبوم يضم توزيعات متنوعة لنور العين بنسخ موسيقية مختلفة ما بين الديسكو والجاز ولكن التجربة كانت باهتة بلا معنى، يحكى عبد المنعم طه كاتب أغنية عودونى شيئا من الكواليس قائلًا: سمعنى عمرو طنطاوى اللحن، فعجزت عن كتابة أى شيء عليه، الجملة الموسيقية التى رددنا عليها فيما بعد عودونى عودونى عليك أحبك عودوني، لم أجد ما اكتبه عليها، قلت لعمرو طنطاوي، لا توجد كلمة مناسبة لها، فأشار إلى علبة السجائر وقال لى مارلبورو مارلبورو، أهى كلمة ونفعت أهي!» سمعت القصة وتخيلت عمرو موديل لإعلانات ماركة السجائر الشهيرة وهو يغنى «مارلبورو.. مارلبورو.. عليك أحبك». ولكننى لا أعرف لماذا قالوا فى الأغنية «عليك احبك» وليس «عينيك أحبك» رغم أن التعبير الثانى أكثر منطقية ورمانسية؟ للقصة بقية: ترقص طفلتى الصغيرة على أغنية «شوقنا»، تذكرنى ب«بلية» فى فيلم العفاريت، تزيد دهشتى أمام أغنيات عمرو دياب، هل اختارها وهو متأكد أنها ستعيش كل هذا الزمن؟ الصدفة وحدها كانت بطلًا لهذه الأغنية تحديدًا، حكى لى الموسيقار خليل مصطفى أن اللحن كان معدًا لمطرب شاب من الشرقية، على مائدة غداء فى منزل عائلة المطرب تم تلحين الأغنية واتفقا أن يضمها المطرب إلى ألبومه الذى سينتجه على نفقته ولكن كلمات الأغنية كانت عن الإسكندرية. يجاهد خليل مصطفى ليتذكر الكلمات قائلًا: كان مطلعها يقول «اسكندرية يامحلاها، شط وجمال وهواها، حاجة زى كده تقريبًا، لكن فى الحقيقة اللحن كان جيدًا وكنت مترددًا أن يضيع فى تجربة عادية، ولم أكتب تنازلًا عن اللحن ولم أتقاض أجرًا وكان من حقى منح اللحن لأى مطرب. مساء التقى خليل بعمرو دياب فى فندق شيراتون القاهرة، كان عمرو يقدم «نمرة» ثابتة بالفندق فى فترة كان فيها «أهم نمرة» فى فنادق الخمس نجوم، وهى مرحلة تلت نجاحاته الساحقة فى كباريهات شارع الهرم. سأل عمرو خليل عن آخر ما لديه، فعرض عليه اللحن. فى التو واللحظة قرر عمرو شراء الأغنية وكتب التنازلات فى غرفة بالفندق كانت محجوزة له للراحة وتغيير ملابسه وأحيانا للمبيت فيها، وكتب العبقرى رضا أمين كلماتها، احتوت الأغنية على صورة فى كل شطر منها خاصة «وإياك تفكر بحر الشوق مهما على هيغرقنا»، التشبيه بين الحب والبحر وبين المحبة والغرق فيه، صورة تميز كلمات شاعر بسيط ولكنه نافذ للقلب دائمًا، هكذا هى أنجح أغنيات عمرو دياب، سهلة بسيطة تمر وتستمر وتبقى مثل قليل من الأشياء الجميلة فى حياتنا.