بشير مفتي لم يكن أى أحد يتوقع فى ظل الركود السائد فى المشهد الثقافى الجزائرى منذ سنوات أن تنفجر فجأة أزمة كبيرة بسبب فوز رواية هوارية» للكاتبة إنعام بيوض بجائزة آسيا جبار للرواية المكتوبة بالعربية فى دورتها الأخيرة 2024، أزمة انطلقت شرارتها الاولى من متنافسين لم يكن لهم نصيب فى الجائزة من نشر بعض الصفحات من الرواية الفائزة، كدليل على أن الرواية سيئة أخلاقيا، وتافهة جماليا، وأن لجنة التحكيم تحيزت للكاتبة بيوض لأن لها اسما معروفا، وتشغل مركزا مهما فى المؤسسة الثقافية الرسمية، هذا إلى جانب اتهامهم للذين منحوها الجائزة أنهم يعرفونها جيداً، لأنها زميلة لهم فى الجامعة، وأن الروايات التى لم تفز أفضل منها بمسافات ضوئية، ولكنها أقصيت لأن أسماء كتابها وكاتباتها من الجيل الشاب الذى ظهر فى السنوات الأخيرة مع موجة النشر على حساب المؤلف، حيث أغلب الأعمال الشبانية اليوم تنشر فى دور نشر تعتبر عند بعض الكتاب دكاكين تجارية لا غير، وهذا ما خلق فى السنوات الأخيرة زيادة كبيرة فى عدد كتاب الرواية، وتراجع كبير فى المقروئية. رغم أن أغلب الروايات التى تصدر مؤخرا على حساب كتابها تطبع بنسخ محدودة، وساعدت وسائط التواصل الاجتماعى على إعطاء هذه الأجيال الشابة ثقة فى النفس رغم غياب فادح للنقد بسبب عدم وجود مجلات ثقافية وأدبية ونقدية فى الجزائر، وهذا ما يجعل عملية التمحيص والغربلة لمعرفة الجيد من الرديء أمرا صعباً إن لم نقل مستحيلاً، وكانت أغلب هذه الأعمال تتلقى الاحتفاء والاعجاب من طرف رواد المواقع وليس من طرف النقاد أو الكتاب المكرسين، لقد ظهرت الكثير من هذه الأعمال فى ظل ساحة ثقافية يتيمة من النقاد والقراء الحقيقيين ومن غياب إعلام ثقافى نوعى يلعب دورا فى إضاءة الطريق لهؤلاء، وتراجع دور نشر مهمة بسبب ما يعرفه العالم العربى برمته من أزمة كتاب بسبب ظروف كثيرة لعل أهمها القرصنة التى جعلت الشباب يميلون لقراءة الكتب على شاشة الموبايل من شراء الكتب. عندما قام هؤلاء الكتاب الذى لم يكن لهم نصيب فى الجائزة بنشر تلك الصفحات، لم تكن الرواية الفائزة موزعة فى المكتبات بعد، وسمعنا أن الناشرة السيدة المثقفة أسيا على موساى لم تطبع منها إلا مئتى نسخة، كمرحلة أولى، ظهرت فى تلك الصفحات المصورة الكلمات «الفاحشة» المستعملة فى الحوار بين الشخصيات، تلك الكلمات التى اعتبرت خادشة للحياء ومناهضة للقيم المجتمعية وزاد الطينة بلة أنها مكتوبة بلغة شعبية، أى لغة الشارع والرعاع، ولم يهتم أحد إن كان ذلك مبررا فنيا، أو يستجيب لسياق الرواية، ويندرج ضمن رغبة الكاتبة أن تكون وفيّة لواقع محدد تريد أن تكشف عن خفاياه وتستغور مجاهيله وتحدثنا عنه بلغته العارية وليس بلغة المجتمع الفاضل المتخيل أو المتوهم، لأن الواقع فى رواية «هوارية» هو واقع فئة هامشية تسكن فى المناطق السفلية من المجتمع، أى سمتها الأساسية أنها لا تتقيد بنفس القيم الأخلاقية الرسمية، والتى تتحدد معاييرها من خلال اللغة التى تتحدث بها وتؤسس عبرها مشروعيتها فى واقعها المادى الذى تعيش فيه، وهنا كانت الصدمة عند المتلقى غير المتكون أدبيا والذى ليس له لا مرجعية أدبية أو ثقافية تسمح له بالفصل بين الرواية كمتخيل ينقل الواقع فى لعبة مرآوية ليس بالضرورة هى تشجيع على هذا النوع من الكلام، وبين الواقع المادى الحقيقى الذى يعيشه كل يوم. هذا المتلقى الذى يثور لأتفه سبب على الفايس بوك، وهو يقرأ ما يستمع له فى الشارع كل يوم على صفحات رواية، كانت ردة فعله عنيفة على النص الروائى واعتبره خارجا عن الأخلاق، لا يمثل قيّم المجتمع، ويصطدم مع ثوابت المجتمع الأخلاقية، ولكن حتى هنا كان الأمر سيكون طبيعياً، أو عاديا لمتلقى ليس له علاقة بالقراءة، وغير متصالح مع الكتاب منذ فترة طويلة، وكان يمكن أن يمر كل ذلك مرور العاصفة العابرة فى صيف ساخن للغاية، لولا تدخل بعض الأطراف التى وجدت فرصة سانحة ليس للنيل من الرواية فقط بل لتصفية الحسابات بين تيارات أيديولوجية متضادة بينها، بين العلمانيين والإسلاميين، اليساريين والدينين، الحداثيين والتقليدين، إلى جانب فئات مصالح تريد أن تضعف جهات فى المؤسسات الثقافية الرسمية لتأخذ مكانها، زد على ذلك بعض السياسيين الذين يركبون مثل هذه الموجات لاستدرار عاطفة الحشود، والصعود على رقابهم. واشتعلت المواقع فجأة بمنشورات كثيرة تدين الرواية وتتهم كاتبها بالسوقية والسفالة وقلة الأدب، وكان رد الفعل الطبيعى من الكتاب المعروفين وطنياً وعربياً أن يدافعوا عن الكاتبة حتى لو كان أغلبهم لم يطلع على الرواية بعد، لأن القضية تجاوزت كونها قضية رواية بل قضية تدخل فى حرية الإبداع وصلاحيات الكتابة، وهو الأمر الذى لم يحدث من قبل، حتى لو كانت هنالك اعتراضات قديمة متجددة من طرف الفئات التقليدية فى الأدب ضد ما يسمى بالأدب الجزائرى الواقعى والذى يربطونه باليسار الثقافي، وهى التهمة السهلة، فكل من يكتب بطريقة تكشف ما يخفيه الواقع أو تفجر ما يضعونه فى خانة الطابوهات المسكوت عنها تلصق به تهمة الشيوعية، الى جانب تهم كالخيانة والعمالة للغرب، وفرنسا بالخصوص، ونشر الانحلال والأخلاق الفاسدة، لكن لم تصل الأمور يوما إلى هذا الحد من العنف والصخب والضجيج والكلام السيء. ومن المفارقات الغريبة أن البعض استعمل حتى كلمات سوقية وغير أخلاقية فى التهجم على رواية يتهمونها أنها غير أخلاقية، فأصبح قاموس الفحش مقسما على الرواية ومن ينتقدونها، غير أن الرواية لا تقدم الفحش كما يسمونه للدفاع عن أو لتبريره بل تكشف عن حضوره فى البيئة الاجتماعية من طرف الفئات الهامشية والهدف غير المعلن عنه لتدينه، أو تضع المجتمع أمام مرآة نفسه، على عكس من ينشرون ردودا نقدية بكلمات فاحشة فهم يؤسسون لقاموس نقدى جديد محشو بلغة الجنس والاقصاء والعنف. بعد انتشار هذه الجدالات الساخنة فى المواقع الاجتماعية قام البعض بقرصنة الرواية ونشرها فى صيغة «بى دى اف» وهو ما مكن العديد من قراءتها، وكانت ردود النقاد متباينة، بين من استحسن العمل ووجده يملك شرعيته الأدبية والجمالية ولا يوجد فيه ما يستحق هذه الهجمات الهستيرية والمتشنجة، وبين من اعتبروا أن الرواية ليست عملا أدبيا كبيرا يستحق كل هذا الضجيج، بل هى رواية بسيطة، وأن الروايات التى لم تفز كانت أحسن منها على الرغم من تأكيدهم على أن الكلمات الفاحشة والسوقية قليلة، وليست بالصورة التى أظهرها من لم يقرأ الرواية كاملة، وأن وراء هذا الهيجان العنفى أشياء مستترة لم تظهر بعد خفاياها وأسبابها الحقيقية، لأنه لم يحدث من قبل أن أثارت رواية مثل هذا اللغط الكبير. وحسب ظنى يوجد فراغ ثقافى كبير فى السنوات الأخيرة، ولم يعد الكتاب الكبار، مثل رشيد بوجدرة مثلا المنسحب من الساحة، يتدخلون كثيرا ويعيشون فى عزلة شبه تامة، بوجدرة الذى طاله هو أيضا منذ سنوات نقد عنيف بسبب تصريحه فى قناة إعلامية أنه ملحد ولكنه يحترم الثقافة والحضارة الإسلامية التى ينتمى إليها، لكن على عكس قضية بوجدرة التى التفت حولها كل النخب الثقافية وساندته، وجدت رواية «هوارية» لانعام بيوض نفسها عرضة لكل أنواع التهجمات وقلة من دافعت عنها، وهذا ما يجعلنا فى الختام نطرح أسئلة كثيرة نتمنى أن نجد لها إجابة مشروعة: هل المشكلة فى الكاتبة نفسها؟ أم فى الجائزة ولجنة تحكيمها؟ أم فى احباطات من نوع آخر وجدت لها تصريفا فى الهجوم على هذا العمل الأدبي؟