فى يومياتى اتناول حدثين من الأهمية لى فى حياتى حدثا فى شهر اغسطس. فى الفترة التى انتهى فيها حكم الاخوان ورفض مناصروهم الاعتراف بذلك واعتصموا بميدان النهضة وأرقى ميادين مدينة نصر وهو ميدان رابعة.. وسأسرد القصة كاملة فى يوم ما فالمساحة هنا لا تحتمل ولكن سأكتب لكم نبذة من فض الاعتصام على الصعيد الشخصى. فالوضع كان مختلفا.. كان ابنى ضابط شرطة ولم يعد للمنزل ثلاث ليال متتالية لقيامه مع فرقته بحملة للقبض على هاربين من الاحكام فى قضايا مخدرات، وكنت انتظره ولا استطيع النوم حتى يعود ويطمئن قلبى وعندما سمعت صوت المفتاح فى الثالثة من صباح 14 اغسطس تنفست الصعداء وحمدت الله على سلامته وذهبت لأعد له بعض الطعام فرفض مفضلا النوم ووعدنى بأن نتناول طعام الافطار معا.. وقررت ان آخذ اجازة انا ايضا حتى اتفحص ملامحه وأشم انفاسه فقليلا ما اراه وقد كدت انسى ملامحه.. ذهب الى غرفته وخلدت انا للنوم.. وفى السابعة صباحا هاتفتنى ابنتى لتسأل عنى وعن شقيقها واخبرتنى ان قوات الشرطة تقوم بفض الاعتصامات وطمأنتها علينا وأعددت الافطار وناديت على ابنى لإيقاظه فلم يرد، فتحت باب غرفته فلم اجده وجن جنونى طلبته على هاتفه فلم يرد.. فتحت التليفزيون وقلبى يرتجف وشاهدت ما يحدث وكل اطرافى ترتعش.. عاودت الاتصال وهذه المرة سمعت صوته وكان يصرخ مستغيثا مناديا على زميله اشرف، ثم سمعت صوتا آخر يصرخ باسم ابنى وسقطت مغشيا على وأفقت لأجد انه قد مرت ثلاث ساعات وانا طريحة ارض الغرفة وحاولت الاتصال بتليفون ابنى فوجدته مغلقا فاتصلت بصالة التحرير بالجريدة لأسأل عن اسماء الشهداء وهدأ من روعى زميلى محمد عبد الحافظ بأن اسم ابنى غير موجود.. وجلست القرفصاء على ارض الغرفة وانتابتنى لحظات من الجنون فكنت احطم كل ما تقع عليه عيناى بالمنزل واجرى هنا وهناك كالفأر داخل المصيدة. ساعات طوال وانا احاول ان اتنفس وأحيا بين اليأس والرجاء فلا حيلة لى سوى الدعاء والدموع .. وفى الثانية عشرة مساء رن جرس شقتى وتسمرت فى مكانى، انه ليس ابنى فلديه مفتاح، فمن عساه على الباب؟ وبماذا جاء يخبرنى؟ وتحاملت على نفسى ووصلت زاحفة للباب فقد كنت لا استطيع السير ولكن الحمد لله وجدت ابنى وكان ملطخا بدماء زملائه الضباط الذين كانوا فى الصف الاول ينادون على المعتصمين للخروج سلميا ففوجئوا بوابل من الرصاص واستشهد 14 رجلا منهم ليس لهم ذنب سوى تأدية واجبهم الوظيفى.. حاولت ان اعانق ابنى فأزاحنى برفق ثم صرخ «صحابى كلهم استشهدوا».. لن استطيع ان اشرح لكم حالة ابنى بعد ذلك والاحداث المؤلمة الكثيرة التى مرت بها اسرتى وأسر رجال الشرطة.. ولكن لا نقول الا تحيا مصر برجالها، الذين منحونا الأمل فى 14 أغسطس . «الفارس الانسان» هو عبد السلام داوود ابن دمياط الذى ولد فى مدينة فارسكور عام 1924 وحصل على ليسانس آداب قسم صحافة من الجامعة الامريكية ومارس العمل الصحفى منذ ان كان طالبا، وتدرج وتنوع فى الاقسام التحريرية فالتحق بالقسم الاقتصادى، ثم أصبح محررا سياسيا ورئيسا لقسم الحوادث وبعدها ترأس قسم التحقيقات ورئيسا لقسم اخبار الناس.. شغل منصب رئيس تحرير جريدة الجمهورية لمدة عام ثم عاد لأخبار اليوم نائبا لرئيس التحرير حتى عام 1975.. وعلى مدى اكثر من 25 عاما كان له باب بارز بعنوان «علامة استفهام» تعرض من خلاله للعديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. أما الوجه الآخر له فهو ممن يعرفه اهل السماء اكثر من المحيطين به على الارض، وكان هذا جليا فى مقالاته التى احتل فى اغلبها الجانب الانسانى، فكم لجأ اليه آلاف المظلومين ليكون حلقة الوصل فى مخاطبة المسئولين وتعود لهم حقوقهم.. وكان له الريادة فى علاج المرضى على نفقة الدولة.. كذلك فقد كان يحظى بثقة القراء فكان مكتبه بابا للخير يتلقى التبرعات وتوضع بخزينة الجريدة فى حساب خاص بها ليتم منحها لأصحاب الحاجة. هذا هو محمد عبد السلام داوود الكاتب الصحفى.. أما الاب والمعلم والانسان فكنت انا اكثر من يعرفه، فقد كان صديقا لوالدى رحمة الله عليهما وتبنانى صحفيا، بل اكاد اجزم انه اذا كانت بى صفة حميدة فهو من علمنى إياها او اكتسبتها منه، فقد كانت كل فترة تدريبى على الصحافة بمكتبه واعتبرنى ابنته كون وفاة والدى كانت مبكرة.. علمنى رحمة الله عليه رفض اى مجاملة او هدية من مصادرى، بل على العكس انا التى اهادى المصدر فى اى مناسبة وكانت له مقولة حفظتها عن ظهر قلب وعملت بها وهى «اليوم انت تكتبين عن مصدرك كل جميل فاذا كنت ممن يقبلون العطايا ووقع هو فى اى مأخذ فلن تستطيعى كتابة حرف عنه وبمعنى آخر هداياه ستقصف سن قلمك».. علمنى ان آخر جنيه فى جيبى امنحه لمريض استغاث بى حتى لو اضطررت للعودة الى منزلى سيرا على الاقدام.. علمنى الكثير ومساحة كتاب لا تكفى لذكر افضاله. يوم وفاته كنت قد اتفقت مع استاذنا وجيه ابو ذكرى رحمة الله عليه لزيارته فى بورسعيد وأعلنت ذلك لكل زملائى بالقسم القضائى ليكتب كل منهم ما يريده من هناك.. ولكن لم يمهلنا القدر وتلقيت خبر وفاته وأنا بمكتبى وانتظرت حتى جاءوا بجثمانه ولم اتركه الا بعد مراسم الدفن.. وعادوا بى منهارة الى الجريدة وطلب منى المرحوم الاستاذ جلال دويدار إعداد الصفحة التى سيشترك جميع الزملاء فى كتابتها لرثائه على ان تكون كلمتى ومقالتى هى الاولى ولم استطع ان اكتب الا جملة واحدة اتذكرها جيدا «اليوم مات كل اهلى.. منذ سنوات مات ابى وامى ولكن هم ماتوا الآن بموت عبدالسلام داوود .. الآن مات كل اهلى». رحمة الله عليه وأسكنه الله فسيح جناته وخفف عنا ألم الفراق فى أغسطس. لماذا التكالب الحياة بحر وموانئ، بحر يتلألأ بفعل اشخاص يفيضون بنورهم علينا، وأحيانا أسود قاتم غاب القمر من فوقه.. تارة هادئ وأخرى به أمواج ترتفع بنا إلى الآفاق او تجذبنا الى الاسفل فلا نستطيع التنفس، ذلك كنبض قلوبنا الذى يتأرجح بين الفرح والشجن واليأس والرجاء، هو مسالم وغدار به كائنات تفترس الضعيف ومن لا حيلة له.. والبحار لها موانئ نجتمع فيها بدمعة لقاء او دمعة وداع.. ولذلك أتعجب: لماذا التكالب على الحياة؟!