محمد سليم شوشة بعض الفنون كانت تدريبًا على محاكاة الطبيعة وأصواتها، ومحاولة إعادة إنتاجها بصورة جمالية، وتحديدًا لعلاقة الإنسان بالطبيعة وعناصرها. ليس صحيحاً أن هناك تعارضاً أو تبايناً واختلافاً بين العلم من جانب والإبداع الأدبى والفنى من جانب آخر، فالصحيح أن الالتحام التام بينهما هو الأمر الجوهرى والأصيل والراسخ منذ فجر الحضارة الإنسانية. الصحيح أنهما فى حال من الامتزاج والتداخل والتقاطع الذى لا يمكن تخيله، لدرجة أن الاثنين فى الأصل شيء واحد. قد نتصور فى فترات الضعف والسذاجة الفكرية أن هناك تمايزاً بين العلم والأدب والفنون، وأن هناك اختلافات أساسية بينهما، لكن بالعودة إلى منابع الحضارات الإنسانية القديمة وفجر التاريخ، سنجد أن العلم والمعرفة من جانب والإبداع الأدبى والفنى من جانب آخر، ينحدران من الأصول الإنسانية نفسها، من المنابع والمقاصد الإنسانية ذاتها، فالرغبة فى تنظيم الحياة الزراعية مثلاً فى مصر القديمة والرغبة فى إقرار نظم ثابتة وعادلة لتوزيع المياه بين المزارعين، وتقليل الصراع بينهم، وكذلك تنظيم سلوكيات المصريين فى الأمور المعيشية، دفعت إلى تأليف وإبداع سرديات وقصص وأساطير وحكايات فى غاية الدهشة والجمال، إلى حد أن كثيراً منها تحول إلى مقدس، برغم كونها من ابتكار الخيال الإنساني، وبرغم أنها بدأت بوصفها قصصاً. فيمكن القول بأن الأدب والخيال والسرديات القديمة، والحكايات الأسطورية، نظمت حياة البشر فى مصر القديمة، ونظمت سلوكهم، ودفعت إلى مزيد من الإنتاج، ودعمت استقرار الدولة، فقد أسهم الإبداع الأدبى والخيال القصصى والسردى للإنسان المصرى القديم فى ابتداع طقوس حياتية عظيمة، أخذت صفة التقديس، بعضها يرتبط بالحصاد ومواسم الزراعة وتغير فصول العام، وأمور الزراعة عموماً، وبعضها الآخر يتصل بالصناعة مثل الخزف وتشكيل المعادن، وبعضها يرتبط بطقوس الزواج والحياة الاجتماعية. لم تكن قصص الإنسان المصرى القديمة منفصلة عن الحياة أو منفصلة عن الممارسات والسلوكيات العملية، بل كلها كانت تكريساً لقيم الإنتاج وتوزيع الإنتاج أو استهلاكه وترسيخ القيم الإنسانية. بعض القصص والحكايات مثلاً كانت عن النهر كما هو ذائع ومعروف، وبعضها ارتبط بالحيوانات والطبيعة أو البيئة والإطار الذى يعيشون فيه، أى كانت تحاول هذه السرديات والقصص تنظيم علاقة الإنسان بما حوله من عناصر الطبيعة والبيئة. بعضها كانت ترسخ لقيم البطولة والولاء والانتماء، وتحض على الانتصار للحق، أو لقيم العدل والحق والخير والجمال. الأمر بالنسبة للفنون كان فى الإطار ذاته، فنجد أن فنوناً مثل الرقص أو الألعاب الحركية، سواء للرجال أو النساء، كانت فى أوقات معينة، إما قبل الزواج كنوع من التهيئة النفسية للقاء الرجل بالمرأة، وهو أمر كان مقدساً، ويعنى لديهم استمرار الحياة، ويعنى الخصوبة والإنجاب والامتداد وإكمال دورة الحياة، وبعضها كان مرتبطاً بأوقات الراحة من العمل، أو يبدو أقرب إلى ممارسة علاجية لمتاعب الجسد بعد أيام من الشقاء والعمل فى الزراعة أو الصيد أو البناء أو غيرها من الأمور الحياتية، وهكذا نجد أنه كان رقصاً علاجياً، أو يمكن رده إلى نوع من العلاج الطبيعى المرتبط بتمديد العضلات، وتنشيط الدورة الدموية، والتخلص من الطاقة السلبية. بعض الفنون الأخرى مثل الموسيقى والغناء، كانت تدريباً على محاكاة الطبيعة وأصواتها، ومحاولة إعادة إنتاجها بصورة جمالية، وتحديداً لعلاقة الإنسان بالطبيعة وعناصرها، ومحاولة دمج الإنسان فيها أو جعل علاقته بالطبيعة علاقة حب والتحام وتناغم. وهكذا فإن الفنون إجمالاً لم تكن مجرد أشياء نظرية تدور فى مجال من الفراغ أو العدمية، بل كانت نابعة من الإنسان واحتياجاته، ومن إطاره ومحيطه وبيئته. وهكذا، فإن الفنون والآداب كانت ذات طابع عملى وذات تأثير مباشر على السلوك، والأهم أنها كانت تتنامى بشكل علمي، أى أن الفنون والآداب كانت هى وعاء العلم أو الأداة التى ترسخ المفاهيم العلمية فى المجتمع، وكانت بعض القيم والمعارف لا يمكن ترسيخها فى المجتمع إلا عبر القصص والحكايات؛ فهذه القصص كانت تمثل البيان الإعلامى والمؤسسات التعليمية، ولكن بصورة جمالية، أى تدمج بين العلم والجمال والتذوق عبر وسيلة أو ممارسة واحدة. وخلاصة هذا أن الحضارات التى تميز بصرامة بين الفنون والآداب من جانب، والعلم من جانب آخر، هى بالأساس حضارات ضعيفة، أو بدأ الضعف يدبّ فيها، ويجب أن تتنبه لهذا، ولا تميز فى أنظمتها التعليمية بصرامة بين الأدبى والعلمي، فهذا خطأ كبير جداً، وبخاصة فى المراحل الأولى للتعليم.