بداية جديدة تُقرّبنا من النهاية، محطة حاسمة لمشوار بدأ ب24 منتخباً، لم يتبق منهم سوى رباعى ينافس على لقب قارى يبقى للتاريخ . هكذا اقتربت كأس الأمم الأوروبية من مراحل الحسم، عندما ينطلق نصف النهائى الأول فى العاشرة مساء اليوم بين إسبانيا وفرنسا على ستاد آليانز آرينا بالعاصمة الألمانية ميونيخ . على أن يُقام نصف النهائى الآخر فى العاشرة مساء الغد بين إنجلتراوهولندا على ستاد سيجنال إيدونا بارك بمدينة دورتموند . تعد مواجهة اليوم كلاسيكية ومنتظرة بين مدرستين عريقتين بكرة القدم الأوروبية، كلاهما عرف طريق البطولة من قبل، إسبانيا الأكثر تتويجاً بالاشتراك مع ألمانيا بثلاثة ألقاب أعوام 1964 و2008 و2012، أما فرنسا فحصدت اللقب مرتين عامى 1984 و2000 . يعد التفوق التاريخى فى المواجهات المباشرة لصالح إسبانيا، ففى خلال 36 مباراة، فاز الإسبان فى 16 وفرنسا ب13 وتعادلا فى سبع مباريات . أما فى اليورو فالتقيا أربع مرات، وكان التفوق والفأل الخير لصالح فرنسا، فقد فاز فى مواجهتين وإسبانيا بمواجهة وتعادلا مرة، وأهمها مواجهة نهائى يورو 1984 حينما فاز الديوك بهدفين، لتكن أولى بطولاتهم على حساب إسبانيا . يقود المنتخبان مدربان وطنيان، دى لافوينتى فى إسبانيا، ديديه ديشامب مع فرنسا. طرق اللعب مختلفة، ويكاد يكون التعاطف مع إسبانيا أكبر نظراً لتقديمهم بطولة أفضل على مستوى الجودة الفنية، إلا أن كرة القدم لا تعترف بالترشيحات ولا المشوار، فقط يوم المواجهة يحسم كل شىء. المربع الذهبى.. لوحة شطرنج يحكمها الذهن والخطة هكذا يبدأ العد التنازلى لنهاية منافسات بطولة كأس الأمم الأوروبية فى نسختها السابعة عشرة.. انتهى دور الثمانية دون مفاجآت، وسيقام نصف النهائى، لم تكن هناك مفاجأة بتأهل هذا الرباعى الباحث عن الذهب، عن اللقب، عن المجد القارى، فتأهل إسبانيا على ألمانيا كان متوقعاً ونسبة التوقعات كانت متكافئة بينهما، وفوز إنجلترا على سويسرا وتخطى هولندا لتركيا وتأهل فرنسا على حساب البرتغال، كلها نتائج طبيعية . أما ما نحن مقبلون عليه فيشبه لوحة الشطرنج في مواجهة ذهنية ولذلك فهو يحتاج لتقديم، وفى سطور تالية موجزة سيتم تلخيص الشكل الفنى الذى ظهر عليه الرباعى طوال البطولة من دور المجموعات وحتى الثمانية، فإلى أهم ظواهر الشكل الفنى للمنتخبات المتأهلة: إسبانيا.. «إقناع وإمتاع» لعل البداية ستكون لدى المنتخب الإسبانى، أكثر المنتخبات إقناعاً فى النسخة الجارية من اليورو، منذ نهاية الجولة الأولى من دور المجموعات، مبكراً،أشار الجميع إلى المرشحين للتتويج باللقب، وكان أغلب الترشيحات تتجه نحو ألمانيا صاحب الأرض والجماهير، وإسبانيا، إلا أن القرعة لم تكن رحيمة ووضعتهما فى المواجهة بدور الثمانية، والتى خرج منها الإسبان منتصرين وبثقة كبيرة وبترشيحات أكبر أنه المنتخب الأقرب للقب من بين الأربعة المتأهلين لنصف النهائى.. يمتلك المنتخب الإسبانى اختيارات عديدة على مستوى الأسماء فى قائمته، المدرب الوطنى دى لافوينتى قادر على إجراء الخمس تغييرات بسهولة ويحافظ بعدها منتخب بلاده على نفس الإيقاع السريع وكأنه لم يتغير شئ، وكأنهم نفس اللاعبين، يتغير رقم القميص فقط ويبقى نفس الأداء والتحركات . أصبحت الكرة الإسبانية منذ تتويج منتخب الماتادور بيورو 2008 مروراً بمونديال 2010 ووصولاً ليورو 2012، وهى مدرسة كبيرة، تتغير بها الأجيال وتبقى الطريقة . الجيل الحالى يُطبق خلال الخمس مباريات التى خاضها فى اليورو الجارى نفس أسلوب «اللاروخا» المعروف، «التيكى تاكا»، تسليم وتسلم سريع من قدم لأخرى دون كلل أو ملل، جودة فنية فى الكرات العرضية وتحركات لاعبى الوسط دون رقابة من الخلف للأمام مع إمكانية التصويب من أماكن مختلفة .. يلعب الإسبان بطريقة 3/3/4، تتحول أحياناً 2/4/4، ويعد خط الوسط هو أبرز خطوطه .. أبرز اللاعبين هم : الجناح لامين جمال «16» عاماً، الجناح ويليامز «21» عاماً، لاعبو الوسط رودرى وفابيان رويز وبيدرى -الذى أصيب فى لقاء ألمانيا- ودانييل أولمو اللاعب متعدد المهام فى الشق الهجومى . سجل لاعبو إسبانيا 11 هدفاً خلال الخمس مباريات، واستقبلت شباكهم هدفين. لم يمل المشاهد للبطولة من مباريات إسبانيا على عكس مباريات لمنتخبات أخرى، فبات مشوارهم بالبطولة حتى الآن يستحق لقب الإقناع بالنتائج والإمتاع بالأداء. إنجلترا.. «اخطف واجرى» قبل بداية بطولة اليورو كان هناك تفاؤل كبير من قبل المتابعين والجماهير بالمنتخب الإنجليزى ووضعه ضمن الترشيحات لتقديم نسخة استثنائية، بل والتتويج بها، وبمجرد انطلاق مباريات منتخب الأسود الثلاثة تحول التفاؤل إلى ملل وضيق من الكرة التى يقدمها الإنجليز، وعاد للذاكرة أرشيفهم فى البطولات الكبرى وفشلهم فى التتويج باللقب الأوروبى طوال ست عشرة نسخة سابقة . رغم وصول إنجلترا لنصف النهائى، إلا أنه وصول رقمى فقط، دون فنيات واضحة، أو أسلوب لعب له جودته، أو تكتيك يثير الإعجاب، بل يأتى الفوز من قبيل الصدفة أو بخبرات وإمكانات لاعب فردياً، ويحدث الفوز بالطريقة العامية «اخطف واجرى» . سجل الإنجليز فى خمس مباريات خمسة أهداف، واستقبلت شباكهم ثلاثة أهداف، إلا أن التنظيم الخططى كان غائباً، لم يستطع الإنجليز حسم مباراتى دور الستة عشر والثمانية فى ال90 دقيقة، الأولى فازوا فى الوقت الإضافى على سلوفاكيا والثانية بركلات الترجيح على سويسرا . لعب منتخب الأسود بطرق مختلفة خلال البطولة، بدأ البطولة بطريقة 1/3/2/4 ومن ثم تحول لطريقة 3/2/5، إلا أن أسلوب المدرب الوطنى جاريث ساوثجيت لم يُقنع أغلب المتابعين، ومنذ توليه مهمة إنجلترا فى 2016 وهو يحقق نتائج جيدة إلا أنه لم يعرف طعم التتويج، بالإضافة إلى أنه لا توجد هوية للمنتخب معه، لا دفاع منظم ولا هجوم ممتع يعرف طريقه لمرمى المنافس بسهولة . تتعلق أغلبية الجماهير سواء فى أوروبا أو فى العالم بمنتخب إنجلترا نظراً لاهتمامهم بالدورى الإنجليزى الذى يعد الأقوى والأمتع بين منافسيه.. ويعتمد بالطبع منتخب الأسود الثلاثة على لاعبى البريميرليج ويعد أبرزهم الجناح فيل فودين لاعب مانشيستر سيتى وزميليه المدافعين والكر وستونز، والجناح ساكا لاعب آرسنال وحارس المرمى بيكفورد، إلا أنه فى النهاية غابوا جميعهم عن المستوى المطلوب والمتوقع خلال البطولة . فرنسا.. «الواقعية المملة» رغم الأسماء المتواجدة فى قائمة منتخب فرنسا، ورغم التوقعات التى سبقت انطلاق البطولة، ورغم استقرار الإدارة الفنية للديوك منذ 2012 مع المدرب الوطنى ديديه ديشامب، إلا أن هناك حالة من الرتابة والملل فى إيقاع لعبهم خلال المباريات الخمسة التى خاضوها طوال البطولة منذ دور المجموعات وحتى الثمانية، حسم الفرنسيون المواجهات السابقة بالالتزام الخططى والحدة البدنية والبحث عن التأهل من مرحلة لأخرى بواقعية . عُرف عن الكرة الفرنسية اللعب الممتع وأساطير ظهروا كنماذج للعب المهارى والمراوغات مثل زين الدين زيدان وميشيل بلاتينى وتيرى هنرى وغيرهم من النجوم، إلا أن الجيل الحالى لم يستطع إقناع المتابعين للنسخة السابعة عشرة من اليورو . سجل الفرنسيون ثلاثة أهداف فقط فى خمس مباريات، من بينها هدفان عكسيان سجلهما لاعبو المنافس بالخطأ فى مرماهم، بالإضافة لهدف من ضربة جزاء، فى المقابل استقبلت شباكهم هدفا وحيدا، وهو ما يشير لنجاحهم فى تضييق المساحات وإغلاق مساحات التمرير والاختراق على المنافس . لم يظهر كيليان مبابى نجم ريال مدريد بالمستوى المنتظر خلال البطولة وسجل هدفه الوحيد فى البطولة من ضربة جزاء، كما لم يظهر لاعبو الهجوم الفرنسى بمستوى جيد أيضاً مثل كولو موانيه لاعب باريس سان جيرمان وجريزمان لاعب أتليتكو مدريد وتورام مهاجم إنتر ميلان . ولعل من أبرز لاعبى الديوك خلال البطولة مينيان حارس مرمى ميلان وهيرنانديز الظهير الأيسر للميلان ونجولو كانتى لاعب اتحاد جدة السعودى . بدأ منتخب فرنسا بأسلوب لعب 3/3/4 وفى المباراة الأخيرة بدور الثمانية أمام البرتغال انتهج ديشامب طريقة 2/1/3/4 للاستفادة من العمق الهجومى لمبابى وموانيه إلا أن الطريقة لم تلق نجاحاً ولم يستطعوا ترجمة الفرص لمحاولات خطيرة على مرمى الخصم. هولندا.. «استعادة الكرة الشاملة» يبحث الهولنديون عن ترجمة مشوار 36 عاماً من محاولات التتويج، أجيال متعاقبة فى نسخ متتالية لكأس العالم وكأس الأمم الأوروبية حاولت دون جدوى، وهذا التاريخ بالتحديد يعود لأول وآخر لقب للمنتخب الهولندى حينما توجوا بكأس الأمم الأوروبية عام 1988 .. المفارقة هنا التى تستدعى التفاؤل، أن هذا التتويج كان فى ألمانياالغربية، فهل يتكرر الأمر فى ألمانيا ب2024 . يقدم المنتخب الهولندى نسخة متنوعة من الشكل الفنى ونوعية اللاعبين، لديهم مقومات السرعة وذكاء اتخاذ القرار والتمرير الجيد، قد يفتقد الجيل الحالى للمهارة التى كانت متوفرة لأجيال سابقة كالتى ظهرت لدى آريين روبين ودينس بيركامب وسيدورف وكرويف وغيرهم من الأساطير، إلا أن توليفة المدرب الوطنى رونالد كومان بطل أوروبا كلاعب، تعطى مؤشرات جيدة لإمكانية تكرار الحلم فى 2024 . يمتلك المنتخب الهولندى هداف النسخة الحالية حتى الآن جاكبو لاعب ليفربول بالاشتراك مع ثلاثة لاعبين برصيد ثلاثة أهداف.. ولديه ثنائى مميز فى خط الوسط على مستوى التسليم والتسلم، رينديرس لاعب ميلان وشوتين لاعب ايندهوفن، كما أن لديهم أحد أفضل مدافعى العالم بالسنوات الأخيرة، آكى لاعب مانشستر سيتى وفان دايك لاعب ليفربول ودى فريج لاعب إنتر وزميله دومفريس . يلعب المنتخب الهولندى بطريقة 1/3/2/4، سجل لاعبوه خلال خمس مباريات تسعة أهداف واستقبلت شباكهم خمسة أهداف. استحوذ المنتخب الهولندى على الكرة فى كل مبارياته باستثناء أصعب مواجهاته خلال النسخة الحالية أمام فرنسا نظراً للصراع التكتيكى بين منتخبين مرشحين، وخروج المباراة بالتعادل السلبى أعطى ثقة لكتيبة كومان فى إمكانية الذهاب بعيداً بالبطولة . حاول الهولنديون استعادة جزء من بريق الكرة الشاملة المفقود خلال النسخة الحالية، ويكفى الطواحين أنها مدرسة منفصلة لا تنضب ابداً، إلا أن الجماهير الهولندية تتمنى رؤية منتخبها على منصات التتويج، فهل تتحقق أمنيتها ؟