رحت أحلف بأيمانى وأيمان الخلق أجمعين بأننى لا أنطق سوى بالحق هذا عهد قطعته على نفسى منذ سنوات طويلة، الحق أننى كنت أصغر سنًا من أن أعيه وأقل رشدًا من فهمه لكننى تدبست فيه تدبيسًا، الوقت كان قبل بضعة وعشرين عامًا وسقطت تحت يدى طبيب جراحة لإزالة بعض من زوائد جلدية ثقيلة أصابت بشرتى بتورمات حميدة ورأى الطبيب حينها أن المسألة بسيطة للغاية ولا تستأهل فتح غرفة عمليات ولا بنجًا كليًا أو نصفيًا حتى، وأقنعنى بأننى إذا صدقته القول فى ردودى على أسئلته التى سيطرحها علىّ فلن أشعر بألم ولن يصيبنى مكروه وما إلى ذلك من تراهات غير قابلة للتصديق، لكننى صدقته ورحت أرد بكل تلقائية وصدق بل وأتمادى فى شرح كل إجابة من إجاباتى لأكون صادقًا إلى حد يقنعه فيقل إحساسى بالألم. آاه كشط الطبيب يومها من جلدى رقائق متتالية بتأنِ وحرفية وأنا أئن وأرد على أسئلته بمنتهى الصراحة والبراءة، حتى وصل إلى مرحلة يتوجب معها الجز من طبقات رخوة فبان صوتى وصحتُ، تمهل الطبيب حينها وسألنى: موجوع؟، فصرخت: آاه، فقال: أحسن، ذلك لأنك بالقطع كذبت فى شىء ما!، صدقته ورحت أفصح له عما لايجوز الإفصاح به ومضى هو يجز من طبقات لحمى جزًا، وكلما توجعت أكثر يضحك هو بسادية كأنه يتشفى فِى، ويقول: لاشىء ينجيك سوى الحقيقة كاملة. كذلك هى قواعد اللعبة الطبيب يملك المشرط والمريض يتمدد تحت يديه مستسلما، ثم لما تغوص يد الجراح يتأوه المريض ويتوجع يكون الألم بسبب كذب المريض لا مشرط الجراح.. عجيبة جدا هذه القواعد لكن تجوز. رحت أحلف بأيمانى وأيمان الخلق أجمعين بأننى لا أنطق سوى بالحق، ثم سألنى عن عملى وكنت للتو قد تخرجت وقبلونى صحفيًا تحت التمرين كواحد من مئات كانت تكتظ بنا جريدتنا، فجاوبته بفخر مازلت أذكره: أنا صحفى واكتفيت بها إجابة كأننى رئيس تحرير، فرفع الرجل مشرطه وتوقف الألم لحظة وضاقت عينا الطبيب وابتسم بهدوء ونظر فى عينى وهمس: ربنا يجعلك كلمة حق، فقبلت يده بعرفان شديد، وسألته: تعنى أن أستمر فى قول الحق!، فضحك بروية وأوضح: لا.. بل أن تكون أنت ذاتك كلمة الحق. ظن هو أننى قبلت يده لأنه منحنى قدرى ودعا لى دعاء أحببته، بينما قبلتها أنا توسلًا أن يتوقف عن التقطيع من جسدى دون بنج أو تخدير. أنهى الطبيب جراحته يومها بعدما استأصل ما يكفيه من شقفات لحمى، وانتهيت أنا من قول كل ما أراد بتفصيل يطول، وخرجت يومها مسندًا على ذراع أبى وكتف أمى والجملة لا تفارق رأسى وخيالى يبحث عن تفسير لها، فكيف لإنسان أن يصير هو بذاته كلمة!.. حيرتنى طويلًا والله هذه المسألة. ثم دارت بى السنون دورتها وعبثت كيفما شاءت ولم أشأ، وبقيت الجملة معلقة فى عقلى، وكبرت وفهمت أن الحقيقة دائمًا ممزوجة بالألم، واستوعبت أن الطبيب أيضا كان يكذب لما قال إننى إذا قولت الحقيقة لن أتألم لكننى أحببت أن أصدقه فتألمت، ثم كبرت جدًا لدرجة أننى أدركت أن الناس تعرف الحق كله وعين الحقيقة وأننى إذا قلت غيرها لن يصدقنى أحد وسأصبح كذابا أيضًا.