هي رغبة الإنسان منذ بدء الخليقة..حلم الخلود فإن لم يستطع ترك أثراً بعده.. ليكون بذلك خالد الذكر لا خالد الجسد ودأبت الحضارات القديمة علي تدوين ما جمعت من علوم ومعارف من خلال أعمال هندسية تصبح أثاراً مع تراكم الزمن وتعاقب الليل والنهار. علمنا هذا من أعمال معمارية شيدت بالحجارة لتعكس معارف تلك الحضارات. وليس بالضرورة أن تكون في المجال الهندسي. كل هذا دافعه الخلود. ونحن حين نقصد أي بلد للنزهة والاستجمام في شتي أصقاع الأرض إنما نبحث عن معالمها المعاصرة ونقصد آثارها القديمة. وكلا الأمرين حجارة. إذا فالحجارة هي أداة تدوين الحضارة... والعمل الهندسي يعنون لتقدم ونهضة البلاد...لكن السؤال الذي يطرح نفسه متي يكون العمل الهندسي مرشحا للخلود وأن يكون ريشة تدوين التاريخ؟ المتأمل يجد أعمالا عديدة من حضارات سابقة كالكولوسيم في روما ومعبد الأكربوليوس في أثينا وصور الصين العظيم وبرج بيزا.. وبرج ايفيل.. وناطحات سحاب شيكاغو... ابداعات غدت معالم لتلك البلدن وجسدت تقدما في علوم التشيد والبناء. إلا أن ثعبان موسي الذي التهم عصي السحرة هو ذلك المعبد الواقع في أقصي جنوب مصر وكأنه يصافح الحدود السودانية. فهو منها ليس ببعيد. هذا المعبد بناه ملك مصر الأشهر رمسيس الثاني لزوجته نفرتاري. والمعبد حفر جبلي ينتهي بقدس الأقداس التي هي فراغ الملك للتأمل والعبادة. ولا يحق لأحد دخول تلك الغرفة إلا الملك وكبير الكهنة. إبداع هذا المعبد الذي وصل إلي حد الإعجاز هو تعامد الشمس فيه علي وجه رمسيس الثاني. وذاك يوم ميلاده ويوم جلوسه علي العرش. يومان في العام فقط تتعامد فيها الشمس علي وجه رمسيس الثاني. إذا لم يكن هؤلاء مهندسين فقط بل كانوا علماء فلك. ولم يقتصر الإعجاز علي هذا القدر بل إن فراغ قدس الأقداس هذا. والذي يسبقه دهليز يبلغ طوله ستين مترا يوجد به أربعة تماثيل. الأول من جهة اليمين راع حراختي. يليه نفرتاري. يليه رمسيس الثاني. ثم الأخير من جهة اليسار إله العالم السفلي بتاح. تتعامد الشمس في الواحد والعشرين من شهري فبراير واكتوبر من كل عام علي التماثيل الثلاثة الأولي فقط. ولا تتعامد علي إله العالم السفلي بتاح. لأنه يجسد الظلام. ومن ثم فلا تعامد عليه ولا نور له. أي روعة تلك.. وأي إعجاز تصميمي ! ولما بنت مصر سدها العالي. وهُدد المعبد بالغرق. تم نقله أعلي التبة بإشراف من اليونسكو. فكانت المفاجأة أن تأخر تعامد الشمس علي وجه رمسيس الثاني يوما واحد ليصبح في الثاني والعشرين من شهري الأشهر المذكورة. أي أن ما شيده المصريون القدماء كان أشد دقة مما تجمع عليه خبراء العالم. مستعينين في ذلك بأدق الأجهزة وأبهر النظم. وهنا نأتي إلي بيت القصيد. فالأعمال التي تكتب التاريخ ويكتب لها الخلود لابد أن تبلغ درجة الإعجاز تصميما وتنفيذا. علي الجانب الآخر ينتابني الأسي والحزن عندما أجد أحد أبناء هذا الوطن. والذي يرأس شركة مقاولات عملاقة يقف مفاخرا بكباري مصر. التي لا يوجد بها أي ابداع إنشائي. بل إنني أذهب أبعد من ذلك لأقول إن مصر المعاصرة لايوجد بها إبداع إنشائي. وأقول دون أدني تردد فرق شاسع ياباشمهندس بين كوبري يقف علي قدميه دون انهيار أو ترد وبين كوبري يكون معلما من معالم القاهرة. فرق بين كوبري يؤدي وظيفته وبين كوبري يبهر ويعجز الناظرين إليه. فيسأل بعضهم بعضا كيف يقف هذا الكوبري؟ وما هو نظام إنشائه ؟ ونحن إن كان عندنا منطقة معلقة بمنطقة غمرة طولها مائتا متر أو يزيد فإن كوبري البوابة الذهبية في لوس أنجلوس سبقها بمائة وسبعين عاما وطول المنطقة المعلقة فيه أربعة كيلو مترات. نحن أبناء بناة الأهرام.. ومن قطعوا المسلات بالماء ينبغي أن يكون عندنا هذا الطموح. لقد كنا رواداً وسنبقي رواداً. إن المهندس المصري هاني عازر كرمته الحكومة الألمانية. وصافح المستشارة أنجيلا ميركل. علي بنائه محطة قطارات برلين. فهل كان هذا التكريم بسبب روعة التصميم؟ لا بل كان لروعة التنفيذ. فالمهندس هاني عازر لم يصمم المبني بل كان المهندس المشرف علي تنفيذه. ولما استطاع ببراعته أن ينفذ المبني دون تعطيل حركة السياحة وبتحويل مجري النهر عبر مراوح عملاقة استحق التكريم من الحكومة الألمانية. إن هذا الوطن لن يعدم أبناء له يكونون مبدعين في شتي المجالات. ومن لا يملك حلم الطموح لن يستطيع كتابة التاريخ. وصدق الشابي حين قال: أبارك في الناس أهل الطموح ومن يهوي منهم ركوب الخطر وأخيرا يوم تكون الأداة التي نكتب بها التاريخ أداة ذات تصميم معجز وتنفيذ معجز. يومها سيكتب لنا الخلود. وكيل كلية الهندسة - جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا