سوف أحسن الظن بالحكومة وأفترض أنها مازالت تحتفظ بقدر معقول من العقل والرشد السياسي، ساعداها علي الاقتناع الآن بأن قضية جزيرتي «تيران وصنافير» أكبر وأخطر كثيرا من أن يجري التعامل معها بتلك الخفة والطريقة البدائية التي صدمت قطاعات واسعة جدا من المصريين، والعبد لله يبتهل إلي المولي تعالي أن يوفق ويرشد أهل الحكم إلي إدراك حقيقة أن قضية من هذا النوع بالغ الحساسية تحتاج إلي علاج سريع لئلا تتحول إلي قنبلة نتركها تنفجر فتمزق بحدة وقسوة وحدة الصف الوطني (فضلا عن فتنة خطيرة تنال من العلاقات المصرية السعودية) فيما نحن نعيش فعلا في قلب عاصفة هوجاء مفعمة بمخاطر وأزمات لا أول لها ولا آخر. أكتب هذه السطور، ليس انتصارا لقناعة عندي تقترب من اليقين، بأن الجزيرتين المذكورتين تتمعان بسيادة مصرية دفعنا فيها ضريبة الدم، وإنما أكتب بدافع الاجتهاد في البحث عن «ممر آمن» نعبر عليه بسلام من هذه الأزمة من دون أن ندفع أثمانا باهظة لا نقدر عليها ولا نتحملها. وأبدأ اجتهادي بأننا في أمس الحاجة لأن تقر الحكومة وتعترف بسرعة وفورا بحق كل فرقاء الجدل في هذه القضية (محذوفا منهم قطيع المنافقين) المشاركة باحترام ومن دون لغة التخوين والتجريح والتشهير، في حوار وطني حر وراق ومنظم وغير محدود ولا مهدد بسيف الوقت. غير أن هذا الاعتراف لن يكتمل ولن يكون له أثر إلا بالكف فورا عن الحديث بأن الأمر قد قضي وانتهي خلاص، وأن تعمل الحكومة بسرعة علي حصار وعلاج الآثار السلبية لمفارقات صارخة تزاحمت أمام عيوننا منذ الإعلان المباغت والصادم عن التوقيع علي اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية (لا نعلم حتي الساعة شيئا عما جاء فيه سوي إخراج تيران وصنافير من تحت عباءة السيادة المصرية). إن أكثر هذه المفارقات إيلاما وأكثرها إثارة للغضب، هو أن الكلام القانوني في «القضية» بدا حكرا علي «هيئة دفاع» مصرية كلها، لكن أعضاءها جميعا تطوعوا بإهداء المملكة الشقيقة ما تيسر لهم من حجج وما اعتبروه «وثائق» تثبت ملكية السعودية للجزيرتين، وهو ما أضفي علي المشهد ملامح موغلة في الغرابة جعلته يبدو سورياليا بامتياز أو مقتبسا من نص ينتمي لمسرح العبث.. هنا لابد من الإشارة إلي حقيقتين اثنتين: أولهما: أن أي « قضية»في هذه الدنيا دائما ما يكون لكل طرف فيها «هيئة دفاع» تخصه هو وليس منافسه، واجبها وجل جهدها واجتهادها ينصب علي البحث عن حجج وأدلة تدعم وتستظهر حقوق من تمثله وتدافع عنه، غير أن ما يحدث حتي الآن أن هيئة الدفاع عن مصر تبدو غائبة تماما عن المشهد، بل إن من حضر أدهشنا بأنه عيَّن نفسه مدافعا بحماس، عن السعودية !! ثانيا: أن مبادئ القانون الدولي التي تخص موضوع الجزيرتين ليس لها في التطبيق العملي تفسير واحد قطعي ومغلق يستولد حكما معينا وحيدا يصلح لحسم كل خلاف مهما تباينت الظروف والوقائع والسياقات، علي النحو الذي يصوره «أصحابنا» المشتعلون حماسا لحق المملكة في جزيرتي تيران وصنافير. هؤلاء الصحاب أهديهم ملخصا مكثفا جدا لقضيتين مشابهتين لقضيتنا الراهنة، أولهما حكم أصدرته في ثلاثينات القرن العشرين المحكمة الدولية الدائمة للعدل في قضية النزاع بين دولتي الدنمارك والنرويج علي جزيرة «جرين لاند»، وقد منح هذا الحكم السيادة علي هذه الجزيرة للدنمارك استنادا إلي أن هذه الأخيرة «مارست عليها أعمال سيادة علنية ومستقرة وهادئة لزمن طويل، لا يؤثر فيها احتجاجات وتحفظات أبدتها النرويج أحيانا، لأن معارضة أعمال السيادة لا تكون بمجرد الكلام وإنما بأفعال (مادية أو قانونية) من شأنها زعزعة هدوء واستقرار الأعمال السيادية للدولة التي تقوم بها».. هل تلاحظ الشبه الشديد بين ما فعلته النرويج في جرين لاند وما فعلته مصر في تيران وصنافير علي مدي 66 عاما؟! أما القضية الثانية، فهي نزاع مماثل نشب في نهاية عشرينات القرن الماضي بين الولاياتالمتحدةوهولندا علي جزيرة «بالماس» المطلة علي المحيط الأطلسي، إذ ادعت واشنطن وقتها أن هذه الجزيرة أقرب لحدودها الشرقية وهي أولي بالسيادة عليها من هولندا، لكن هيئة تحكيم دولية أسقطت هذا الإدعاء الأمريكي وأعطي حكمها السيادة علي الجزيرة لهولندا، تأسيسا علي أن «دولة إسبانيا التي تعد جزيرة بالماس جزءا من أراضيها، لم تقم بأي عمل اعتراضي في مواجهة مباشرة السلطات الهولندية سيطرتها وسيادتها علي هذه الجزيرة» خلال عقود من الزمن. الخلاصة.. أن طبيعة «القضية» التي نحن بصددها هي من التعقيد والخطورة والحساسية بما يجعل التعامل الحالي معها ضارا ومؤذيا جدا، لاسيما وأن هناك طريقا آخر ربما كان أطول لكنه أكثر أمانا.. إنه طريق الحوار الوطني الشامل الذي يتسع لكل الآراء والاتجاهات والخبرات في هذا الوطن.