لا أستطيع أن أحبس دموعي. أشعر باليتم مجددا وأنا في سن الخمسين. أحاول أن أكتب. تختلط الحروف بالدموع، وتنهمر كلما شعرت أنه لن يقرأ ما أسطر. راح هيكل إذن. فقدت الأب والسند والبوصلة.. فقدت الصحافة أهم من أمسك بالقلم وألمع من صنع للمهنةمكانتها. فقدت اللغة أقدر من نحت الكلمة وصاغ العبارة أسلوبا ومعني وفكرا. فقدت مصر الشاهد الرئيسي علي تاريخها المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية إلي ثورة ٣٠ يونيو، بل أحد صناع هذا التاريخ. وفقدت العروبة ضميرا يقظا وعقلا هاديا في زمن نامت فيه الضمائر وساد الجنون انتحارا من شرفات التاريخ. رحل الأستاذ.. وراح الصحفي والمفكر والإنسان الذي لا يعوض.
منذ يومين..كنت أهاتف الدكتور أحمد هيكل ابنه الأوسط، أطمئن علي صحة الأستاذ، بعد أن حال مرضه الشديد دون أن أزوره في مكتبه أو بيته، والتقي به كما اعتدت منذ ٥ سنوات، مرتين أو مرة كل أسبوع. أدركت من كلام الدكتور أحمد، أن الأستاذ، كما اختار حياته وحدد محطاتها باليوم والساعة، اختار أيضا نهايته، فقد نزع أنابيب المحاليل والغسيل الكلوي، وتوقف عن تناول الدواء، وكف عن الطعام. وقال لأسرته: لن أتحدي حقائق الطبيعة أكثر مما تحديتها، وحان وقت الانصراف! صمت الدكتور أحمد هيكل، وقال لي: «ثمة أمانة حملني إياها الأستاذ، هي رسالة لثمانية أشخاص، أنت واحد منهم: وأبلغني بها، فاختنق صوتي بالعبرات.. ولم أستطع إكمال المكالمة. بالأمس.. كنت أستعد للذهاب إلي منزل «الأستاذ» للقاء أحد أبنائه عند الظهر. كنت أعلم أنني لن أراه، ولا أريد، إلا في الصورة التي يرغب في أن يُري عليها. وقبل أن أهمُّ بالذهاب، جاءتني مكالمة من الفريق عبدالعزيز سيف الدين أحد محبي «الأستاذ» والمقربين إليه، يقول: «البقاء لله».
شريط طويل يدور في رأسي. في آخر لقاء.. جلست إليه ساعتين في غرفة مكتبه.أسأل، وأسمع، وأتعلم، وأهتدي. كان قلقاً، لكنه لم يكن متشائماً. هو لا يعرف التشاؤم. كان علي قلقه من مخاطر الحاضر وتحدياته، متفائلاً بالمستقبل ووعوده. كان «الأستاذ»، يكن تقديراً للرئيس عبدالفتاح السيسي، ويعلق عليه أملاً. وقال لي: ابقوا بجانبه، لا تتركوه وحده يصارع أمواج المسئولية ودواماتها. .. أذكر في أحد أوائل اللقاءات التي جمعتني بعدد من قيادات المجلس الأعلي للقوات المسلحة، في أعقاب ثورة ٢٥ يناير، أنني قلت لهم: «سمعت رؤية وتقديراً للموقف من شخصية عالية القدر، لو سمعها أعضاء المجلس، قد تجنبنا الوقوع في أخطاء يمكن تجاوزها». ورد عليّ أحد أعضاء المجلس قائلاً: «طبعاً أول حرف من اسم هذه الشخصية هو محمد حسنين هيكل»! نظرت بجانبي، فوجدت ظل ابتسامة ذكية علي وجه اللواء عبدالفتاح السيسي. وعلمت فيما بعد أنه التقاه لمدة ٦ ساعات، وأن المشير طنطاوي وعددا من كبار القادة، التقوه، وسمعوا نصائحه، وليتهم استمعوا إليها! .. تعددت اللقاءات في الشهور والسنوات التالية بين اللواء، والفريق أول، والمشير، والرئيس السيسي مع «الأستاذ». ربما لعشرات المرات. لا يخفي السيسي اعجابه البالغ بالأستاذ صحفياً وكاتباً ومفكراً ومحللاً سياسياً لا يباري، وحين سألته في أحد حواراتي المنشورة عن كاتبه المفضل، قال الرئيس دون تردد: «الأستاذ.. محمد حسنين هيكل». أعرف أن الرئيس متيم بقراءة هيكل منذ كان في نهاية دراسته الابتدائية. اعتاد أن يشتري الجرائد لوالده كل صباح، وكان يأتيه بها دون تأخير، عدا يوم الجمعة. فقد كان يقف أمام باب المنزل يطالع مقال هيكل الأسبوعي «بصراحة»، قبل أن يصعد حاملاً الصحف إلي أبيه. ولم يعد الوالد يسأله عن سبب تأخيره يوم الجمعة بالذات، فقد علم أن السر هو «هيكل»! .. ربما يظن كثيرون أن دور «الأستاذ» الأهم في الصحافة والسياسة كان في سنوات الخمسينيات والستينيات، لكني أزعم أن دوره الأهم والأخطر كان في السنوات التي أعقبت قيام ثورة ٢٥ يناير!
آخر مرة سمعت فيها صوت «الأستاذ».. كانت منذ أسبوعين تقريباً. كان قد أصيب بالتهاب رئوي، في أيام العواصف الترابية، وشق عليه التنفس أثناء قضاء يومي اجازة في البحر الأحمر، وعاد إلي القاهرة، ونقل إلي المستشفي، ولم يشأ أن يبيت به أكثر من ليلة، ثم عاد مجدداً بعد أن أرهقت كليته ولم تعد قادرة علي القيام بوظيفتها، لكنه من جديد ترك المستشفي وعاد إلي منزله. كنت علي اتصال مستمر بالدكتور أحمد هيكل أسأله عن «الأستاذ»، وأرجوه ان يضغط عليه ليبقي ولو بضعة أيام بالمستشفي. لكني كنت أعلم أن أحداً لا يقدر علي «الأستاذ» عناداً وجدلاً ومنطقاً! جاءتني مكالمة «الأستاذ» كان صوته المميز أصح وأنقي، من مكالمة سابقة بدت فيها نبرات صوته تتعثر أمام شهيق عسير، وبادرني في المكالمة الأخيرة قائلا: عرفت أنك سألت عني كثيرا.. أنا كويس. قل لي: «إيه الأخبار».. عرفت تفاصيل اتفاق إيران مع الغرب؟! ثم بدأ يحدثني عن بنود الاتفاق. كان قد اطلع عليها، ولم أكن قد اطلعت علي التفاصيل، فقد ورد أول خبر عنها منذ دقائق! هكذا كان: «الأستاذ» دائما، يسألنا صحفيين ورؤساء تحرير عن آخر الأخبار، وكنا نعرفها منه، أونعلم أبعادها ودقائقها.
سمعت اسم هيكل لأول مرة منذ أكثر من ٤٥ عاما مضت. كنت في السنة الأولي الابتدائية. كان والدي صحفياً مقيماً علي جبهة القنال، ولم أكن أراه إلا الجمعة من كل أسبوع، حتي عدنا من المهجر الي الإسماعيلية بعد انتصارنا في حرب أكتوبر. جزء من الوقت الذي كان يمضيه والدي معنا يوم الجمعة، كان يُؤثِر له به مقال «بصراحة» وجزء آخر، كان ينفقه في الحديث مع والدتي عن الأسرار والخبايا التي كشفها هيكل. وحين رحل عبدالناصر.. سمعت والدتي تقول الأنسب أن يخلفه هيكل! منذ أشهر.. طال لقائي الأسبوعي مع «الأستاذ» إلي ٤ ساعات، ضعف الوقت الذي يتفضل بمنحه لي كل أسبوع. أدعي انني قرأت كل ما كتب «الأستاذ» مراراً، وسمعت كل ما قال، وكثيرا ما سألته عن عبدالناصر، وكان يستفيض في الإجابة، ويطوف بي من مناسبة إلي حادث، ويعرج بي من سنة إلي أخري. لكن في هذه المرة بالذات، سمعت من هيكل ما لم أسمعه من قبل عن شخصية عبدالناصر الزعيم الاستثنائي والإنسان الفذ، ودمعت عيناي، وطالع «الأستاذ» بنفاذ بصيرته دواخلي، وقال: كنت أتمني لو أنت قابلته، وعرفته كما عرفته أنا. ورددت: لقد عرفته يا أستاذ لأني قد عرفتك!
أول مرة التقيت فيها «الأستاذ» كانت منذ ١٦ عاما مضت. يومها جاء إلي نقابة الصحفيين لتسلم جائزتها التقديرية وهو أرفعها شأناً، وكان أول من يفوز بها. في ذلك الحين، كنت عضوا مجلس النقابة ومشرفا علي جوائزها، وأقترحت استحداث هذه الجائزة. وكانت مهمة مجلس أمناء الجائزة وأعضاء لجان تحكيم الجوائز، اختيار الفائز بالجائزة التقديرية. وأذكر أن الصديق العزيز حسن المستكاوي دَوِّن رسالة ومررها لي كتب فيها: ستكون فضيحة لو أن أول جائزة فاز بها غير هيكل» وفعلاً صوت الحاضرون بأغلبية كبيرة لاختيار هيكل. بعدها بأسبوع، زرته في منزله ومعي النقيب الحالي يحيي قلاش وزميل آخر بالمجلس، وكانت أول مرة أتحدث معه وجها لوجه.. وقلت له يومها: «أنت يا أستاذ بالنسبة لجيلي علي الأقل بوصلتنا. بك نعرف الاتجاه والمسار». فضحك وبدت عليه السعادة وقال: «هذه تهمة. لأنك تتهمني بتضليلكم»!. مضت السنون.. ولم تسنح لي فرصة لقاء أخر. ثم توليت رئاسة تحرير «الأخبار» في المرة الأولي مع دنو أعاصير ٢٥ يناير، وفي قلب أيام الثورة، جاءتني مكالمة علي هاتفي المحمول، وكانت من الأستاذ، وقال لي كلاما عن الجريدة أخجلني من السعادة، ثم دعاني إلي لقائه. ومنذ ذلك اللقاء قبل ٥ سنوات مضت، توثقت علاقتي به، ولم تنقطع زياراتي له، وكنت أبدأ يومي متأخراً بمهاتفته، وكان ينهي يومه مبكراً بمكالمتي. قرأت هيكل الكاتب، وطالعت فيه المفكر، استمعت إلي هيكل السياسي، وأنصت إلي الأستاذ. لكن يبقي أغلي من عرفت هو محمد حسنين هيكل الإنسان، الراقي، المتواضع، أنيق العبارة والملبس، ذكي اللفتة والإيماءة، ساحر النبرة والنظرة، كان رجلاً فريدا في طلته، كالمغناطيس يجذب كل ما يقترب، ولا ينجذب إلا قليلاً إذا أراد!
أشعر بغصة اليتم، وأحس بفداحة الخسارة لثمت كفي، ووضعته علي النعش في الجنازة، ثم لمسته عند سلم المدفن، وأنا أعود.. ووجدت وجهه يتمثل أمامي وفي عينيه نظرة عتاب أعرفها، وكأنه يقول: اجمد! خسارتنا لا تعوض، وخسارتي أعجز عن وصفها. لكن يكفيني أني عشت في «عصر هيكل» وعرفت الأستاذ.