اتاحت ظروف عمل المفكر والكاتب الكبير عبده مباشر في بلاط صاحبة الجلالة لأكثر من نصف قرن فرصا للاقتراب من رؤساء مصر الثلاثة ناصر والسادات ومبارك.. وعن الظروف والاسباب يكتب مجموعة من المقالات يكشف فيها الكثير من الاسرار والخفايا التي كانت تجري في الشارع الخلفي بعيدا عن الأضواء.. وعلي هذه الصفحة تنشر "المساء الأسبوعية" مقالات الكاتب الكبير. قبل أن يصل معمر القذافي إلي القاهرة لأول مرة بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي قاده يوم أول سبتمبر عام 1969 لاستكمال بناء الجسور مع جمال عبدالناصر. والتعرف عليه وجهاً لوجه. والحديث معه والإنصات إليه باعتباره الملهم والزعيم القومي الذي لا منازع له بالرغم من هزيمة يونيه 1967. لم يشأ عبدالناصر أن يلتقي به فور وصوله. كان في حاجة إلي المزيد من المعلومات عن هذا النقيب أو الملازم أول.. كان يريد أن يقرأ خريطة أفكاره وتطلعاته. وكانت خبرات عبدالناصر الانقلابية ماثلة دائماً وحاضرة في ذاكرته. فقد سبق أن سار علي نفس الدرب وخبره. وتعرف علي أسراره. لذا كانت تساوره شكوك تعلقة. ومخاوف من هذا الجار ومن أصحاب الفضل أو الأيادي البيضاء عليه. والذي لا شك فيه أن القذافي كان يعتبر أن ما قام به في ليبيا. هو امتداد طبيعي ومنطقي لما جري في مصر يوم 23 يوليو .1952 ولم تكن القاهرة بعيدة عما كان يجري في ليبيا. وقد وصلت مجموعة تقارير عن رحلة الملازم أول معمر القذافي إلي لندن قبل الانخراط بشكل جاد في التحضير للانقلاب علي النظام الملكي السنوسي. وبعد نجاح الانقلاب. أوفد عبدالناصر الأستاذ محمد حسنين هيكل للقاء أصحاب السلطة الجدد في ليبيا. خاصة معمر القذافي. وهناك في طرابلس. استقبلوا هيكل بحفاوة شديدة. وعاد هيكل ليكتب لقراء الأهرام تقريراً متميزاً. وللرئيس عبدالناصر تقريراً مختلفاً. حيث تضمن الأسرار التي لا يمكن نشرها. وقراءته الشخصية للمجموعة الانقلابية الشابة. وقد رافق هيكل في رحلته السريعة إلي ليبيا أستاذ فن التصوير الصحفي الكبير محمد يوسف الذي التقط مئات الصور لمعمر القذافي ولباقي أعضاء المجلس الثوري. وقرأ عبدالناصر التقرير. واستمع إلي انطباعات هيكل وتقييمه لهم. وللموقف. كما أمضي وقتاً طويلاً في تأمل الصور. حيث كان يفضل التعرف علي الشخصيات السياسية والقيادية من صورها... ولأنه رأي تأجيل اللقاء بالقذافي. فقد وقع اختياره علي الفريق محمد صادق رئيس الأركان. ليكون الشخص الذي سيوفر له المعلومات التي يريدها عن القذافي. فقد كان ملف الانقلاب أمامه. وسبق أن تحدثا بشأنه. عندما كان صادق يشغل منصب مدير المخابرات الحربية. وقدر رئيس الجمهورية أن خبرات الرجل كملحق حربي متألق في ألمانيا لنجاحاته البارزة وقتذاك. وكمدير مخابرات كفؤ. تجعله أنسب من يتولي هذه المهمة. وكان قد تم إبلاغ القذافي أن ارتباطات عبدالناصر تحول بينه وبين استقباله فور وصوله. وأن الرئيس يقترح عليه أن يزور الجبهة. خاصة ومعارك الاستنزاف تتواصل بنجاح. ليتعرف عن قرب علي حقيقة الموقف العسكري والضغوط التي يشكلها من خلال اللقاء المباشر مع القادة والضباط والجنود. وتم إبلاغه أن الفريق محمد صادق رئيس الأركان سيصحبه خلال هذه الزيارة. واتجه القذافي بصحبة الفريق صادق إلي قيادة الجيش الثاني الميداني بالإسماعيلية. واستقل أعضاء الوفد الليبي عدداً من السيارات بصحبة مجموعة من القادة. اختارها صادق بعناية. لتشاركه في إنجاز المهمة كما أرادها عبدالناصر. وبعد انتهاء اللقاء والاستماع لشرح سعد مأمون. كانت هناك دعوة لتناول الشاي.. وأثناء ذلك طاف الفريق مع معمر وبدأ في تقديم القادة له. وعندما وصل إلي المكان الذي أقف فيه مع عدد من مساعدي رئيس الأركان. قال له: سأقدم لك الصحفي والمدني الوحيد الذي يشارك في عمليات الكوماندوز خلف خطوط العدو. وتساءل القذافي: كيف يشارك وهو مدني؟!.. فقال له صادق: إنها حكاية طويلة يمكنك أن تسمعها منه. وقال القائد الليبي موجهاً حديثه لي: سنلتقي بإذن الله في المساء. وبعد التأكد من إجراءات تأمين الوصول إلي المواقع الأمامية. تمت الزيارة بعدد محدود حتي لا تتكرر مأساة الشهيد عبدالمنعم رياض. وتطرق حديثه لاحتمالات الحرب. فأكد له صادق أن مصر ستحارب لتحرير أرضها المحتلة. ولكنها في حاجة أولاً لاستكمال احتياجاتها من الأسلحة والذخائر والمعدات والأجهزة. وسأل القذافي ببراءة عن العوائق التي تحول دون ذلك. وباختصار أوضح له رئيس الأركان أن مماطلة الاتحاد السوفييتي في الوفاء بالتعاقدات. وعدم القدرة علي شراء السلاح من مصادر أخري سواء لنقص التمويل أو لرفض بعض المصادر بيع السلاح لمصر. وبغضب صاحبه انفعال. قال القذافي: ولماذا لا تدفع الدول العربية الغنية ثمن هذا السلاح؟!.. واستطرد قائلاً: إن ليبيا ستقوم بدورها. وستطالب باقي الدول العربية بتحمل التزاماتها. وخلال الاجتماع العسكري سأل واستفسر عن عمليات التخطيط والاستعداد للحرب. فرد عليه القادة مؤكدين أن الحرب قادمة. وأن معارك الاستنزاف مرحلة ضرورية في إطار الاستعداد للحرب.. وبجدية كاملة اقترح القائد الليبي. نقل ثلاث فرق من المدرعات والمشاة الميكانيكية إلي الجبهة السورية. وبدء حرب التحرير من هناك. وقال: إذا كانت القناة كمانع مائي تحول بين مصر وبدأ الحرب قبل الاستعداد لذلك. فإن الجبهة السورية لا يوجد بها نفس المانع المائي. ويمكن للقوات الهجوم علي إسرائيل من هناك. وتحقيق الانتصار وتحرير الأراضي المحتلة.. ووجد القذافي استحساناً وتشجيعاً وتأييداً من باقي أعضاء الوفد الليبي. وأمسك الفريق صادق بأول الخيط وتساءل: وكيف سيجري نقل هذه القوات إلي سوريا؟!.. وهل سيتم ذلك بحراً أم جواً؟!.. ثم أجاب: إن مصر لا تملك الأسطول الجوي القادر علي نقل هذه القوات جواً. كما أنها لا تملك سفن نقل بحرية كافية لمثل هذه العملية. وكان رئيس الأركان جاداً وهو يشرح هذه العقبات للقذافي ولأعضاء الوفد المرافق له. وفي نفس الوقت كان واضحاً وبسيطاً. وكان هدفه إقناع الجميع حتي لا يعودوا لطرح مثل هذه الاقتراحات. نعم هم عسكريون وحكام. ولكنهم في حاجة إلي وقت لدراسة الواقع بكل أبعاده..وشعرت في نهاية الاجتماع أن الوفد الليبي لم يصل إلي مرحلة الاقتناع. لقد سمعوا ولم يكن لديهم المعلومات أو الحقائق العسكرية التي يردون بها علي ما سمعوه.. وبالنسبة لهم ظلوا علي اقتناع بأن الاقتراح أو الخطة التي طرحها معمر خطة عبقرية. ورأوا فيها سبيلاً عملياً لتحرير الأراضي العربية المحتلة. وإلحاق الهزيمة بالقوات الإسرائيلية. وفي المساء أرسل القذافي في طلبي. وباسماً مندهشاً سألني عما إذا كنت أشارك حقاً في عمليات الكوماندوز خلف خطوط العدو؟!.. فأكدت له الأمر. وطلب أن يسمع حكاية المدني الفدائي. فحكيتها له. ثم سأل عن العمليات التي نقوم بها. فبدأت بالحديث عن إبراهيم الرفاعي قائد المجموعة. وأنه يعد القائد النموذج والقدوة لكل مقاتلي المجموعة من الضباط والصف والجنود. واتصل تليفونياً بالفريق صادق وطلب لقاء إبراهيم الرفاعي الذي سمع عنه مني الآن. فاستجاب الرجل وأخبره أنه سيكلف مدير مكتبه بالاتصال بالرفاعي ويطلب منه الحضور إلي الإسماعيلية. والتفت القذافي يسألني: متي أتوقع وصول قائد قوات الكوماندوز؟!.. فقلت. لن يستغرق الأمر 90 دقيقة من لحظة العثور عليه تليفونياً. فقال: هل هناك فرصة أن نراه الليلة؟!.. فأجبته: لو أنك تحب السهر. فسأترك له خبراً لكي يأتي إلي هنا فور وصوله. وبدأ القذافي يسألني عن القوات الموجودة بالجبهة؟!.. فقلت له كما رأيت.. بعض مواقع الجيش الثاني.. هناك جيش ثالث في القطاع الجنوبي من الجبهة. والقوات الموجودة كافية جداً لخوض معركة دفاعية ناجحة ضد قوات العدو. وأن هناك عمليات تدريب مستمرة لرفع مستوي الكفاءة القتالية. وهناك فرق دفاع جوي وقوات جوية.. يجري دعمها باستمرار سواء بإنشاء قواعد دفاع جوي جديدة. وقواعد جوية إضافية في العمق. ولكن العقبات كثيرة وفي مقدمتها تأخر وصول الأسلحة والمعدات من الاتحاد السوفييتي. وعدم توفر التمويل الكافي الذي يسمح بشراء أسلحة من خارج دول الكتلة الشرقية. وسألني مباشرة عن الرئيس عبدالناصر؟!.. وعن آخر مرة رأيته فيها؟!.. فقلت له: إنني أراه علي فترات متباعدة. والأمر يتوقف علي وقته وإرادته. فسألني عن صحته. فقلت إنه بصحة جيدة بالرغم مما يعانيه من متاعب صحية. فحاول أن يعرف أكثر. فأوضحت له أنه سيلتقي بالرئيس بعد ساعات. وسيدرك بنفسه أنه في حالة صحية جيدة. وأراد أن يعرف المزيد.. فانتحي بي في صالون آخر. واستفسر عما إذا كان الرئيس يرحب بالحديث حول كل القضايا؟!.. وقلت له: إن الرئيس اعتبر نجاح الثورة في ليبيا نجاحاً شخصياً له. وقد ارتفعت معنوياته بشكل ملحوظ بعدها. وبعدها تسلم تقرير الأستاذ هيكل. وبدا في الصور التي التقطت له أكثر شباباً. وإنني أتوقع أن يصبح الرئيس في حالة أفضل صحياً ومعنوياً بمجرد أن يلتقي بكم ويسمع منكم. وثق أنه سيرحب بطرح كل الموضوعات التي تريد أن تطرحها. وسيكون واضحاً وصريحاً جداً وهو يتحدث عن العلاقات بين بلدينا. وعن تصوراته المستقبلية لهذه العلاقات. فقال معمر: إننا علي استعداد للتضحية بأنفسنا من أجل مصر. والقضايا العربية. وسيجد منا كل ما يسعده قولاً وفعلاً. ودق جرس التليفون. وقال من تلقي المكالمة إن مدير مكتب الفريق صادق يسأل: هل يحضر إبراهيم الرفاعي الآن.. أم ينتظر للغد؟!.. فقال القذافي: أخبره يا أخي أن يتفضل الآن. والتقي القذافي وأعضاء الوفد بقائد الكوماندوز المصري. وسألوه كثيراً. وسمعوا منه. وكان إعجابهم وتقديرهم له كبيراً. كما نجح الرفاعي في ترك انطباع جيد لديهم جميعاً. وخلال اللقاء عرضوا عليه تدريب مجموعة من الضباط الليبيين سواء في مصر أو في ليبيا. فقال إنه مستعد لذلك جداً. ويرحب به. ولكن بعد عرض الأمر علي القيادات المسئولة. وانتهت الزيارة التي أعتقد أنها كانت مفيدة جداً للوفد الليبي. فقد وقفوا علي الحد الأمامي للقوات غرب القناة. وشاهدوا العلم الإسرائيلي مرفوعاً علي المواقع الإسرائيلية الحصينة شرق القناة. ورصدوا بعضاً من تحركات القوات الإسرائيلية شرقاً. وبدأوا يتعرفون بشكل مباشر علي معني الاحتلال ومرارته في حلوق المصريين الرابضين في مواقعهم غرب القناة. وعادوا إلي القاهرة وهم علي اقتناع بأن زيارة الجبهة كانت الإنجاز المهم لهم قبل لقائهم بالرئيس عبدالناصر. الذي اتخذوا منه ملهماً ومرشداً وقدوة. وقدم الفريق صادق التقرير المطلوب للرئيس عبدالناصر. وحكي له ما جري خلال الزيارة بما في ذلك الاقتراح الخاص بنقل ثلاث فرق مصرية مدرعة ومشاة ميكانيكية إلي الجبهة السورية. وبدء حرب التحرير من هناك. بعدها التقي الرئيس عبدالناصر بالقذافي. وكان لقاءً رائعاً. رفع معنويات الرئيس المصري. خاصة وهو يسمع أحاديث التقدير والإعجاب من كل أعضاء الوفد. وطلب الوفد الليبي من مصر دعمه دعماً كاملاً بالخبرات الفنية والأمنية والإدارية والقانونية.. واستجابت مصر. وانتهت الزيارة.. ولكن ظل الترقب قائماً..بعدها استغل القذافي ثقة عبدالناصر فيه. خاصة بعد أن أعلن أنه يري فيه شبابه. وطرح عليه في زيارته التالية قضية جديدة بمنطق سهل وواضح. وواقعي. حيث قال لعبدالناصر: إن الشواطئ الليبية علي البحر المتوسط طويلة. وتمتد لأكثر من ألفي كيلومتر. والإمكانيات الليبية الحالية لا يمكنها أن توفر الحماية لها. وفي ظل هذا الوضع فإن أمن ليبيا في خطر. ويمكن للآخرين اختراق هذه الشواطئ والقيام بأي أعمال عدائية. وأشار إلي وجود قوي كثيرة معادية تنتشر أساطيلها في البحر المتوسط. وأكد أن هذه القوات التي تملك قدرات هائلة. وإن لم تخطط لعمليات عدائية. فإنها تستطيع أن تمارس الضغوط علي ليبيا. وقال: إنه حتي ولو سلح الشعب الليبي وطلب منه حراسة وحماية هذه الشواطئ. فإن النتيجة لن تكون مطمئنة. وبعد هذه المقدمة وصل إلي الهدف الذي جاء من أجله. حيث قال: لقد جئت إليك لأستعين بك لحماية الثورة وليبيا وأهلها من غدر الغادرين. فسأله عبدالناصر.. وكيف أفعل ذلك؟! فأجابه: بالموافقة علي إرسال قطع من الأسطول البحري المصري إلي المياه الإقليمية الليبية لكي تقوم بحماية الشواطئ الليبية. وليبيا علي استعداد لتحمل كافة الأعباء المالية.. ورد عليه عبدالناصر قائلاً: إن القوات المسلحة المصرية ليست للإيجار. كما أنها ليست جيشاً من المرتزقة. ولكن وبما أن هذه المسئولية واجب قومي. فإن مصر ستتحمله عن طيب خاطر وبلا مقابل..وبعد هذه الموافقة التي أتت علي هواه ومحققة لهدفه. قال: إنني أرجو أن تكون الغواصات من بين قطع هذه القوة.. فأكد له عبدالناصر أنه سيأمر قائد القوات البحرية بذلك. وسيطلب من وزير الحربية متابعة تنفيذ هذا الأمر بنفسه. وهنا قال معمر: إذا ما وصلت هذه القوة البحرية إلي ليبيا.. فإنني أتطلع إلي أن يتلقي قاءها أوامره مني. حيث سيكون في المياه الإقليمية الليبية. .. وبالرغم من الدهشة والشك.. وافق عبدالناصر علي أن تكون هذه القوة تحت قيادته. وطار العقيد فرحاً. ولم يعرف كيف يوجه الشكر لمعبوده عبدالناصر علي موقفه القومي العروبي.. واستجابته لمطلب توفير الحماية للشواطئ الليبية. وما أن خرج القذافي حتي أصدر عبدالناصر أوامره إلي وزير الحربية لتنفيذ هذه المطالب.. بعدها تحدث مباشرة مع قائد القوات البحرية. وطلب منه أن تأتمر هذه القوة بأوامر القذافي. ولكن بشرط ألا تنفذ أي أمر يصدر لها إلا بعد إبلاغك شخصياً بذلك. وإن كان بها ما يثير شكوكك أو شكوك قائدها. فيجب أن يتم إبلاغي بذلك فوراً. وكانت شكوك عبدالناصر في محلها. فبعد أسابيع. تم إبلاغه بأن القذافي طلب من قائد القوة البحرية المصرية إرسال غواصة إلي منطقة قريبة من الشاطئ الإسرائيلي لإغراق باخرة أمريكية سياحية ضخمة أثناء توجهها إلي الموانئ الإسرائيلية. وكانت الباخرة تحمل علي ظهرها عدداً كبيراً من اليهود والإسرائيليين بجانب مجموعة من اليهود الأمريكيين الأثرياء وأعضاء من السلطتين التشريعية والتنفيذية. فأصدر أوامره بعودة هذه القوة البحرية فوراً. بعد أن تبين أن الزعيم الليبي قد خدعه.