عدت من سلطنة عُمان بعد زيارة أتاحت لي التعرف بعمق علي عراقة شعب وتاريخ وثقافة هذا البلد الذي يتجه للحداثة بنفس القوة التي يتمسك بها بماضيه وحضارته القديمة وثقافته الأصيلة، ولمست مدي الحب والاحترام الذي تحظي به مصر وشعبها وثقافتها وفنونها في الوجدان العُماني، ومدي التأثر بروافد الثقافة المصرية في عصرها الذهبي.. عصر »ثروت عكاشة« الفارس المصري الذي جعل ثقافة مصر وفنونها رسولاً للشعوب تحفر بصماتها في العقول وتقرب المسافات بين أصحاب الأرض والتاريخ والهوية المشتركة. أعاد لي خبر رحيل الفارس مشاعر الزهو بما حققه لمصر حين آل علي نفسه الابتعاد عن المعارك السياسية، واختار الانحياز لتغيير المجتمع عن طريق الثقافة وإذكاء الوعي المصري وانطلاق الابداع المصري إلي كل مكان، هذا الرجل الذي شارك في ثورة يوليو وقاد سلاح الفرسان اختار دائما الوقوف في صف الديمقراطية وحرية الرأي والإبداع، ولم يستغل صفته العسكرية ولا قربه من الحكم كعضو في مجلس قيادة الثورة لقمع رأي أو تغيير فكر أو شل إبداع، وبفضله تحول منصب وزير الثقافة الذي تولاه علي مضض عام 8591، إلي حالة فريدة من المسئولية الحقيقية والعمل الدؤوب بلا زيف أو ادعاء، وبلا انتظار لأوامر عليا وكان نتاج هذا التفاني والإخلاص ميلاد بنية أساسية جديدة للثقافة والفنون والآداب في مصر تمثلت في إنشاء دار الكتب الجديدة ومؤسسة المسرح ومشروع الصوت والضوء وأكاديمية الفنون ومعاهد عليا للسينما والمسرح والموسيقي والباليه، غير ما قدمه للمكتبة العربية من أعمال موسوعية عن الفنون في الإسلام والمخطوطات القديمة، وكتابة مذكراتي في السياسة والاقتصاد، واهتمامه بالترجمة والنشر للتعرف علي ثقافات العالم وإنشاء مشروع الصوت والضوء ليصبح من معالم السياحة الشهيرة في العالم، وكفاحه الطويل مع منظمة اليونسكو ليتم إنقاذ آثار النوبة من الغرق، في مشهد مهيب وجه أنظار العالم لابداع الثقافة والتراث المصري القديم. قليلون هم من يلتفون حول الوطن مثلما فعل هذا الفارس، وبمثل هذا الإخلاص النبيل والحماس المتواصل، وما تعيش عليه الثقافة المصرية الآن هو بعض إنجازات »ثروت عكاشة« الذي كان بحق نور ثورة يوليو، والذي لم تحظ الثقافة المصرية بمثله حتي الآن.