جمال الغيطاني لكم تمنيت أن أري أصل هذا المنظر. رجل مصري قديم، يسجد بجوار شجرة دوم، الشجرة مثقلة بالثمار التي أعرفها جيداً، ماتزال أشجار الدوم قائمة في صعيد مصر، لكنها تختفي إذ لا يقوم أحد علي زراعتها الآن، ربما تشاؤماً، فالأشجار لا تنمو إلا بعد حوالي قرن من الزمان، ومن يزرعها لا يري ثمارها، لقد سُمي الدوم من الدوام، لكن المعمرين يقولون إن شجر الدوم كان يأتي مع الفيضان الغزير من الجنوب، بالتحديد من الحبشة ومن اريتريا، ثم توقف وصوله بعد اكتمال السد العالي وتوقف الفيضان الذي كان يعرف في صعيد مصر بنفس اسمه المصري القديم »الدميرة«. يسجد الرجل إلي جوار شجرة الدوم، وإلي جانبه قناة ماء صغيرة، البعض يفسر السجدة باعتبارها وضعاً لشرب الماء من القناة، ولكنني أري في هذا الوضع سجدة صلاة، تماثل تماماً السجدة التي تتخلل صلاتنا. هذا الرجل الساجد اسمه باشيرو، يفصله عن عصرنا حوالي ثلاثة آلاف وستمائة عام، عاش في قرية دير المدينة كأحد العمال الفنانين الذي سعوا في أرجائها، كان والده معاصراً لسيتي الأول، وعمل في معبد الكرنك، أما باشيرو الابن فعاصر سيتي الثاني ورمسيس الثاني ابنه! ومن اللوحات المرسومة علي الجدران له ولزوجته وبناته يمكن القول انه ميسور الحال، وكان في وضع جيد لطالما رأيت اللوحة في الكتب التي تتناول تاريخ مصر القديمة، ولأسباب شتي لم أدخل مقبرته في زياراتي السابقة، المرة الأولي في ذلك الصباح الباكر، تقع المقبرة علي سفح المرتفع المطل علي القرية، سلم ضيق يؤدي إلي ممر صغير يفضي إلي غرفة الدفن، المدخل مقوس، لابد للزائر أن ينحني، علي الجانبين صورة للتابوت الذي لم يصل إلينا بسبب لصوص الآثار الذين دخلوا هنا أولاً في منتصف القرن التاسع عشر بعد أن عرف جندي شرطة من الأهالي الطريق إلي المقبرة، فوق التابوت نري »آنوبيس« حامي الموتي وحارس المقابر، وكان يصور علي هيئة كلب أسود لم يعد موجوداً ما يشبهه، فمه مسحوب إلي الأمام وأذناه مرفوعتان وذيله غليظ أشبه بذيل الثعلب، الجدار مزخرف بما يشبه موج البحر، أمواج صفراء علي أرضية بنية اللون، اللون الأصفر العميق هو الذي يطفي علي الذاكرة بعد مفارقة المقبرة، لأنه أصفر ناري، بهيج، الحقيقة أن الألوان ماتزال طازجة كأن الفراغ كان منها بالأمس، وليس من حوالي خمسة وثلاثين قرناً من الزمان. المقبرة حالتها جيدة بشكل عام. إنها حجرة متوسطة، سقفها علي هيئة نصف دائرة، مستطيلة، في المواجهة نصف الجدار عليه ما تبقي من رسم كبير كان يغطيه أما النصف الآخر فنزع ويستقر الآن في المتحف البريطاني. ما تبقي أمامنا صورة للإله أوزير، إله العالم الآخر، لون وجهه أزرق يميل إلي الخضرة يجلس فوق عرشه ويرتدي ملابسه البيضاء، الألوان تعرفنا علي الآلهة، كذلك ملابسها وتيجانها، يظهر أوزير متدثراً بالكفن الأبيض علي هيئة مومياء في الأغلب الأعم، خلفه هنا تظهر خطوط حمراء منحدرة من السقف، قوية التكوين وكأنها أمواج منحدرة من نقطة مجهولة، تتخللها نقاط حمراء غامقة وسوداء، ليس هذا كله إلا خلفية يبرز منها رمز العين »واجت« عين حورس، العين الحارسة، العين التي يبصر منها الميت، دائماً كانت ترسم علي التوابيت من الخارج، وعلي الجدران في المقابر، إنها نافذة اللاموجود علي الوجود، من العين تبرز ذراعان تحملان أصيصاً به قمح نابت، تقدمه كهدية إلي الإله أوزير، إلي الخلف يبدو الصقر »حورس« وإلي أسفل »باشيرو« صاحب المقبرة يرفع يديه متعبداً لأوزير، الكتابة المحيطة بالرسومات من نصوص كتاب »الخروج إلي النهار«، علي جدار آخر نري باشيرو أمام شجرة، نصفها الأسفل شجرة والنصف العلوي أنثي تقدم له الثمار، وأتذكر علي الفور لوحة جميلة في مقبرة تحتمس الثالث يقف أمام شجرة يبرز منها نهد امرأة والملك يرضع منه، الشجرة الأنثي معتقد مازال له بقايا في الريف المصري. في مقبرة »باشيرو« نري الجدران مزينة بمزيج من المناظر ذات الطابع الديني ولكن ليس بتفصيل دقيق كما نري في مقابر الملوك العظام حيث نري جميع التفاصيل المتعلقة بالعقائد، خاصة في مقبرة سيتي الأول وتحتمس الثالث ورمسيس السادس، هنا في دير المدينة نري مقتطفات من الرموز الدينية، وإلي جانبها بعض مشاهد الحياة اليومية التي سنراها بتفصيل أدق في مقابر النبلاء وكبار الموظفين، عندما تأهبت لرؤية مقابر دير المدينة قلت لنفسي سوف أري شغل الفنان لنفسه، سألت نفسي: هل قام باشيرو برسم المقبرة بنفسه أم استعان بزملائه الفنانين؟ إن الفنانين في دير المدينة هم الذين يقومون بنحت ورسم مقابر الملوك، فلابد أنهم سيقدمون في مقابرهم فناً جميلاً، خاصاً، لا يشبه بالطبع ما رسموه لملوكهم، ومن خلال مقابر دير المدينة رأيت الموقف الوسط الذي اتخذوه، إذا كانت مقابر الملوك والملكات حافلة بالنصوص واللوحات الجنائزية، ومقابر النبلاء تفيض بالحياة، فقد اتخذ الفنانون موقفاً وسطاً، بحكم انتمائهم إلي المؤسسة الدينية، وبحكم ما يمارسون فهم الذين يرسمون الآلهة وما يجري في العالم الآخر، لا يمكنهم إغفال النصوص الدينية وما يعبر عن المعتقد، لكنهم عبروا بشكل مختلف عن تلك النصوص، في تقديري أنه تعبير أكثر انطلاقاً وأكثر حرية، خاصة في الألوان عما نراه في مقابر وادي الملوك، حيث المتون صارمة، والمراحل دقيقة، والمشاهد متزنة، مهيبة، ومن ناحية أخري رسموا مشاهد الحياة اليومية، لقطات منها، ليس بفتصيل دقيق كما نراه في مقابر النبلاء، أو مقابر بني حسن في تل العمارنة، أي تلك التي وصلت إلينا من حقبة اخناتون. الألوان هنا دافئة، الأصفر أصفر بعمق، والأحمر أحمر والأزرق أزرق، أما الأبيض فناصع، لقد نما عندي شعور بالبهجة والمرح رغم انني في مقبرة، وتأكد هذا الشعور في مقبرة أخري، مقبرة »هيركاو« التي وصلت إلينا من زمن الأسرة العشرين، الدولة الحديثة، والتي ماتزال تحتفظ بنقوش للسقف مستوحاة من النجوم والزهور، في بعضها درجة عالية من التجريد تذكرنا بفن الأرابيسك الذي نراه في المساجد وفي العمارة الإسلامية، ما علق بذاكرتي من هذه المقبرة لوحة جدارية لصاحب المقبرة في مواجهة روحه »البا«، و»البا« أي روح الميت ترسم علي هيئة طائر ريشه أخضر ورأسه آدمية. »البا« أحد المكونات الروحية للإنسان، يعبر عن طاقة الانتقال والاتصال والتحول الكامنة في كل فرد، وبواسطة »البا« ينتقل المتوفي من قبره إلي العالم الخارجي، فالبا يتحول بالميت من العالم الحسي المحدود إلي العوامل اللامرئية غير المحدودة، وحتي الآن مازال الناس في صعيد مصر يلزمون الصمت إذا ظهر طائر أخضر أو فراشة خضراء ظناً منهم أن روح الميت تتقمص هذه الفراشة أو ذلك الطائر، وهذا من بقايا المعتقد القديم، الصورة أو المنظر الموجود في المقبرة هنا يفيض بالحيوية، يصور حواراً بين الميت وبائه، وثمة لوحة أخري مشهورة تصور صاحب المقبرة يقف احتراماً لطائر اسمه »النبو« وهو طائر خالد، يذكرنا بالعنقاء الخرافية، التي تحترق وتولد من جديد من خلال رمادها المتبقي، وطائر الفونيكس الاغريقي أيضاً الاسطوري. من المقابر التي أمضيت فيها وقتاً أطول، مقبرة الفنان أو العامل »سنجم«، لقد اكتشفت في عصر تولي جاسنون ماسبيرو الفرنسي »6481 6191« لمصلحة الآثار المصرية الوليدة، جاءه أحد أهالي القرنة وأخبره بالعثور علي مقبرة سليمة مازال بابها الخشبي قائماً، وسرعان ما أرسل رئيس العمال لقضاء الليلة بموقع المقبرة خشية الطامعين من لصوص الآثار، وفي اليوم التالي توجه ماسبيرو إلي المقبرة، واتضح أنها للفنان »سنجم«، وتم استخراج موميائه وتوابيته وأدواته الجنائزية كما تم استخراج الأدوات التي تخص زوجته »اينفرتي« وابنته »خونس« وزوجة ابنه »تامكت« وسيدة تدعي »ايزيس« ربما كانت حفيدته أو زوجة ابنه، لقد نقلت الآثار إلي القاهرة، لكن تم توزيعها قبل إعداد سجل دقيق لها، أما أفراد العائلة فقد تم التفرقة بينهم بقسوة بعد أن رقدوا معاً مدة تتجاوز الخمسة وثلاثين قرناً من الزمان. مومياء سنجم ترقد الآن في المتحف المصري بالقاهرة، أما زوجته »اينفرتي« وابنتها »خونس« فقد نقلتا إلي متحف التروبليتان في نيويورك حيث تستقر توابيتهما أما المومياء ذاتها فقد نقلت إلي متحف بيبودي في كمبردج بولاية ماستشوستس، أما زوجة الابن »تامكت« فقد استقرت في متحف برلين. هكذا تفرق شمل العائلة وتوزعوا بين بلاد لم يكن لها ذكر، ولم تكن أنشئت بعد، أو عرفت الحياة حتي عندما كانوا يسعون في الحياة الدنيا.