قد لا تعرف من الشاعر كامل الشناوي إلا من أغنية واحدة لأم كلثوم وواحدة لعبد الوهاب واثنين لعبدالحليم حافظ وبس ولكنه أهم من ذلك وأعمق أثرا في حياة جيل من الصحفيين والأدباء الشبان. فليس له مثيل في تاريخ الصحافة في كل العصور. فهو ضخم الجسد. قلبه أكبر من جسمه. وقد وسع قلبه كل الشبان في الفن والأدب والموسيقي. وهو الذي حملنا علي كتفيه وأدخلنا في عالم مسحور ولا نعرف عنه شيئا عالم الفن والصحافة والسياسة. وكثيرون لا يعرفون ذلك. ولكن إذا نحن بدأنا حياتنا الصحفية والأدبية فكامل الشناوي هناك. وعلي استعداد دائم لأن يساعد ويسعد ويدفع ويدافع.. عرفت كامل الشناوي بالصدفة. كنت أعمل محررا في جريدة »الأساس«.. وفجأة سمعت عن صحيفة جديدة سوف تصدر مساء. وقيل لي: لماذا لا تقابل كامل الشناوي.. وقابلت كامل الشناوي. كل شيء فيه غريب. صوته مليء وجسمه أيضا. وبسرعة قرر اختياري. وبسرعة حدد مرتبي وهو ضعف مرتبي في جريدة الأساس. ولم أقصر. فقد تعبت في جريدة الأساس. وعملت في الاستعداد لإصدار الصحيفة المسائية. وفي ذلك الوقت كنت مدرسا للفلسفة في كلية الآداب. وكنت سعيدا أن أعطاني في يدي ستين جنيها شهريا وهو مبلغ كبير جدا في ذلك الوقت. وكنت آخذ خمسة جنيهات وهي تكفيني إفطارا وغداء طوال الشهر.. وطلب مني أن أرأس قسم الترجمة فاعتذرت. لأن هذا العمل يربطني بالمكتب ولا أستطيع أن أعمل في أي مكان آخر.. وليس هذا هو المهم.. المهم هو كامل الشناوي. فهو يدعونا إلي العشاء كل ليلة وعلي حسابه. ويرفض أن يحاول أي إنسان أن يدفع عنه. ليس أحدا منا. وإنما الناس الكبار. والناس الكبار هم الباشاوات الذين تقرأ عنهم في الصحافة. وعبدالوهاب تصور وأم كلثوم - تصورا! وفريد الأطرش وحفني باشا محمود. والراقصة زينات علوي. كل ليلة يدفع لنا ثمن العشاء والآيس كريم والخمور التي يشربها كثير من الذين حوله من الفنانين والصحفيين الكبار! إحسان عبدالقدوس ومصطفي أمين وعلي أمين والتابعي. والصاوي محمد وتوفيق الحكيم.. وليس هذا هو المهم. وإنما أن ندخل نحن الصغار وبلا مقدمات في هذا الجو الساحر الرفيع. لا أعرف أن أصف كيف كنا. هل أغرقنا كامل الشناوي في تلك البحيرات والجزر التي امتلأت بها الشعب كل ليلة.. ومن هنا يجيء عفريت فينقلنا إلي حيث لا نعرف ويجيء طائر الرخ ويغرس مخالبه فينا ويطربنا كل ليلة من حيث لا ندري إلي حيث لا نعرف. كل ليلة. اعتدنا علي ليالي كامل الشناوي. ولم نعد نستغرب وجود الباشاوات والكبار في كل الفنون. إن كامل الشناوي هو جزيرة المغناطيس التي تشد هؤلاء الناس إلي بعضهم البعض.. ثم ننفلت من الضحك ومن المتعة الأدبية. تصور كل ليلة! لثاني مرة: كامل الشناوي! من هذا الساحر؟ كان طالبا في الأزهر. وترك الأزهر. وعمل في صحيفة »الأهرام« ثم خلع الجبة والقفطان وارتدي البدلة. أشيك البدل.. وأجمل القمصان والكرافتات والولاعات الذهبية. وأحسن السجائر يخرجها ويقدمها لكل الناس وتتساقط علب السجائر والفارغة إلي جواره فهو يشعل سيجارة من سيجارة طول الليل.. ولا يشيل السيجارة من شفتيه إلا لكي يشرب قهوة سادة -لأنه مصاب بالسكر. ورغم اصابته بالسكر فهو يسرف في الطعام وفي الشراب وفي الحلوي ويدعونا إلي ذلك. وهو الذي يتحرر طول الوقت. وليس أحسن منه راوية ومحدثا ومضحكا- انه آخر الظرفاء في تاريخ الأدب والصحافة. فهو أستاذ النكتة والشياكة والقفشة النظيفة. وصاحب تعبيرات مبتكرة. يبتكرها كل ليلة وتنطلق في ليالي القاهرة. ومن خلال ذلك يقول شعرا. وقدرته علي الإلقاء عجيبة. حتي إن أمير الشعراء شوقي كان يدعوه لأن يلقي له شعرا فكان يطلب من الشاعر حافظ إبراهيم أيضا. فأمير الشعراء يثأثئ وكذلك الشاعر البديع إبراهيم ناجي.. فأحس كامل الشناوي أنه شاعر أيضا. فلماذا لا يلقي شعره هو. وكان يسحرنا بذلك.. وكنا ندور في فلكه - يوسف إدريس وعبدالحليم حافظ وعشرات من الصحفيين وهو محطة إذاعة وحده. وهو أكبر داعية لك في حضورك وفي غيابك فهو الذي يختار لك العمل والصحيفة. وهو الذي يناقش في الأجر والإجازة والمكافأة.. وهذا ما لا نستطيع. ولذلك كان اعتمادنا عليه. وعنده قدرة هائلة علي الاقناع. إنه لم يتعلم أية لغة. ولم يمارس العمل الصحفي. وإنما هو أديب يعمل في الصحافة. ولذلك كان يحرص علي أن يلتقي بالشخصيات الكبيرة ويجري حديثا معها. وهو الذي ابتكر عبارة أن التعليم كالماء والهواء. ووضعها علي لسان طه حسين فنسبت إلي طه حسين والتقطها الرئيس عبدالناصر وانتشرت بين الناس.. ولم تنجح صحيفة »الجريدة المسائية«. لقيت مقاومة عنيفة. فقد كانت مع الوفد ضد الحكومة برياسة إبراهيم باشا عبدالهادي. صادرها عدة مرات. ثم اضطرت أن تغلق أبوابها بعد أربعين يوما من صدورها. وقبل أن تنطفئ هذه الصحيفة التي كانت شعلة مضيئة في الفن والأدب، حارقة في السياسة. كان كامل الشناوي قد وجد لنا عملا في »صحيفة الأهرام« سنة 0591. وعمل معنا أيضا. وأدخل كامل الشناوي كثيرا من التجديد علي الصحيفة التي كانت غير موافقة أو غير قادرة علي التصور أو التحرك أو أن يكون لها موقف سياسي واضح. لقد هزها كامل الشناوي. وغير ملامح الصفحة الأولي وأدخل الخطوط العريضة في العناوين وأدخل الألوان في الصفحة الأولي. وقالوا: عجوز تتصابي. وإنما كانت شابة نسيت أنها كذلك! لثالث مرة: كامل الشناوي! ورغم تردد صحيفة الأهرام في الاستجابة لكل طموحات وخبطات كامل الشناوي فإنها استسلمت وطاوعته. وكن هو الأصح. فالأهرام صحيفة لبنانية صاحبها ورئيس التحرير. هو يخاف أن يكون لها لون سياسي. وإنما هي اختارت السلامة -فاختارت كل الألوان. أو ألا يكون لها لون. إنها اختارت الطعام المسلوق لأنه صحي- ولكن لا طعم له.. ولذلك قفزت صحف أخري لجرأتها ومرونتها مثل صحف أخبار اليوم.. فنحن الشبان الصغار لم يظهر لنا أسماء. مثلا: أنا كنت أترجم القصة القصيرة كل يوم. ثم رحت أؤلفها لمدة سنتين. وحتي يمكن نشرها جعلت أسماء أبطالها أجنبية. وللحقيقة. ظهر اسمي مرتين: مرة خطأ علي موضوع كتبته عن الباليه الهندي الذي جاء يرقص علي مسرح الأوبرا. والمرة الثانية عندما سافرت أنا وكمال الملاخ إلي أوروبا. فظهر خبر صغير لا يلتفت إليه أحد أو يصعب أن يلفت أحدا إذا أراد: يسافر اليوم كمال الملاخ وأنيس منصور علي ظهر الباخرة اسبيريا وكنا علي ظهرها فعلا لا مجازا.. أما المرة الثالثة التي أغضبت رئيس التحرير الأستاذ عزيز ميرزا. فقد كتبت مقالا فلسفيا ووقعته هكذا: د.أنيس محمد منصور. ونشر المقال. دخت وغضب رئيس التحرير. فقد نشروا المقال لأنني لست صاحبه! وكان كامل الشناوي يسخر من الأهرام ويقول إن تمثالا لصاحب الأهرام أن يوضع في كل أركان أخبار اليوم -فلولا جمود صاحب الأهرام ما كانت انطلاقة أصحاب أخبار اليوم. وتركنا العمل في الأهرام سنة 2591 لنشارك في إصدار الصحيفة اليومية الجديدة.. وهي جريدة الأخبار.. وأذكر أنني ساهمت في الصحيفة الجديدة بخبر غريب. وقد كتبته بحماس شديد. فأدهشني الخبر وأدهشني الحماس أيضا. ومع ذلك اختصروا الخبر وظهر في الصفحة الثانية وليست الأولي.. الخبر كان ردا علي ما قالته تحية كاريوكا في مهرجان كان. إنها بصقت في وجه ممثلة أمريكية قالت لها: إنها يهودية. وهاجمت كاتبنا الكبير يحيي حقي الذي كان مديرا للفنون. وهو صاحب فكرة الفستان »الشرعي« للرقص. الذي يغطي معظم الجسم ولا يكون مشقوقا علي البطن. أما الجزء الثاني من الخبر، فإنني قلت إنه ليس صحيحا أنها بصقت في وجه الممثلة ولا زوجة يحيي حقي يهودية! لرابع مرة: كامل الشناوي! وكنت أعمل في صحف أخبار اليوم وفي مجلة »النداء« لصاحبها ياسين سراج الدين وأعمل في »روزاليوسف« وأتقاضي عنها جميعا تسعين جنيها.. وأعطيها لأمي وأبقي لنفسي ستة جنيهات تكفيني الشهر كله- إفطارا وغداء. وكانت أخبار اليوم حلما في حياتي الصحفية. بهرني أسلوبهم في الكتابة. السرعة والايجاز والخبر. بلا مقدمات ولا لف ولا دوران. وكنت أتوقف كثيرا عند كاتب مجهول يوقع: م.م. وعرفت فيما بعد أنه مصطفي محمود كاتبنا الطبيب الأديب. يرحمه الله. وأتعجب لطريقة مصطفي أمين في الكتابة. ورغم أنه تلميذ محمد التابعي فإنه يتفوق عليه. هو أسرع وأوقع. وإذا كان محمد التابعي أستاذ الصحافة الحديثة يستخدم السهم ذات الريش التي تطير وتصيب فإن مصطفي أمين يطلق الرصاص في جرأة. شيء غريب. أسلوب عجيب في الكتابة. فعناوين الموضوعات ضخمة والمقدمات بحروف كبيرة ثم يجئ الخبر بعد ذلك. كل ما يكتبون هكذا. ولكنهم ليسوا أدباء. ولا عندهم وقت. ولو كان عندهم وقت فهم لا يتذوقون الأدب والفن. وإنما ينشرونه استكمالا لملامح الصحيفة أو المجلة.. وكانت أم كلثوم تقول أنا لا أحب أن يحضر حفلاتي الأخوان مصطفي أمين وعلي أمين. فهما يجلسان ولكن مختلفان عن الناس ولا يتوقفان عن الكلام. ولكنهما لا يسمعان أم كلثوم - ولا يسمعان أي مطرب! إلي »أخبار اليوم« نكون قد دخلنا الفرن- أي المصنع الحديث للصحافة الجديدة. صحافة الخبر.. فقد كانت الصحف قبل ظهور »أخبار اليوم« تنشر القصيدة والمقالة في الصفحة الأولي. وتنشر أخبار اليوم عشرين خبرا في الصفحة الأولي.. ثم إنها لا تنشر أي خبر. وإنما الخبر المثير والخبر الذي تنفرد به. وعندما كانت الصحف تتقاضي مصاريف سرية أي مساعدة من الحكومة. كان مصطفي أمين وعلي أمين يقولان: لا نريد فلوسا نريد خبرا ونحن بهذا الخبر كل يوم نكسب مالا أكثر! وهناك فوارق أخري كثيرة بين »أخبار اليوم« والأهرام. الأهرام إدارة منضبطة تماما. وعندما تدخل الصحيفة فلا تسمع صوتا ولا تري واحدا فكلنا في غرف مغلقة نعمل في هدوء.. ولم أر صاحب الأهرام إلا صدفة.. بينما في »أخبار اليوم« هيصة وأناس يدخلون ويخرجون وحركة من غرفة إلي غرفة. ثم إن كل المحررين قد جلسوا في قاعة كبري. كلهم معا. متقاربون والكل يشرب ويأكل ويدخن. ولا أحد يعترض علي أي تصرف- بينما كنا في الأهرام لا نفعل شيئا من ذلك. إن كامل الشناوي هو الذي قلب كل القواعد فأدخل الولائم في الأهرام. ومن الذين يعترض علي عشاء في مكتب لتوفيق الحكيم ومحمد التابعي وإحسان عبدالقدوس وسيد بك ياسين وأحمد باشا حمزة كل هؤلاء في قلب كامل الشناوي يأكلون الحمام والسمان المحشو بالأرز والذي بعث به الأستاذ التابعي من دمياط؟! لخامس مرة: كامل الشناوي! ثم هذا هو صاحب »الأهرام« الشاب الذي جاء لزيارة »أخبار اليوم«. وتوارينا منه خجلا. فنحن قد سرنا وراء كامل الشناوي.. ولم نقدم استقالتنا. وإنما تركنا العمل دون إخطار. إنه كامل الشناوي ومن الذي يرفض له طلبا. ثم إن هذا الطلب لصالحنا. إنه رفعنا إلي فوق. من خطوة أعلي إلي خطوة أرفع وأنفع.. ولم نكن نعرف نفرق بين التوءم مصطفي أمين وعلي أمين. فلهما نفس الملامح ونفس الضخامة. وعرفنا فيما بعد أن الذي إذا رآك ومد يده مصافحا مع أنه لا يعرفك فهو مصطفي أمين. أما الذي لا يمد يده. رغم أنه يعرفك، فهو علي أمين. ثم حدث في ذلك الوقت أن ربط علي أمين رقبته. فكنا نعرفه. ولا أنسي يوم حضر ومعه طفلة صغيرة هي ابنة علي أمين تنظر لأبيها ثم تنظر لعمها ولا تعرف من هو أبوها. ثم إن أحدا منهما لم يساعدها. فراحت تبكي. فضحك الاثنان! واتسعت دائرة الذين يدورون في فلك كامل الشناوي- الصحفيين الشبان.. وكان برنامجه اليومي أن يلتقي مساء في العاشرة أو ابتداء من منتصف الليل حتي الصباح. هذا هو العذاب واحد مثلي، مهما كان حبه لكامل الشناوي. فقد انضبطت حياتي وترابطت. أنام عند منتصف الليل وأصحو في الرابعة صباحا. وهذا هو كل نصيبي من النوم. أصحو وأقرأ وأكتب.. ولكن برنامج كامل الشناوي يقضي علي أي برنامج آخر فهو شخصيا لا ينام إلا علي أضواء الفجر. فهو لا يستطيع أن ينام في الظلام.. وإنما ينام في النور. وينام في السيارة. لأنه لا يحب أن ينام وحده. وقبل الفجريطلب مني أو غيري من الزملاء أن ينطلق بالسيارة إلي الهرم. ومن الذي يقول لكامل الشناوي: لماذا؟ لا أحد.. فكلنا نحبه ونحترمه ونمتن له. ولا تكاد السيارة تبدأ طريق الهرم حتي يميل كامل الشناوي علي جانب وينام والسيجارة بين أصابعه. فإذا حاولت أن أعود إلي البيت، ما دام قد نام. فيصحو. ويطلب أن نمضي إلي الأهرامات. وأبلغ الأهرامات وأعود عندما تكون شعاعات الفجر والصباح قد أضاء السماء.. وعند البيت يكون قد صحا تماما.. ويدخل الفراش ولا يصحو إلا عند الظهيرة. ويكون قد ابتلع المنومات بعد فناجين القهوة السادة التي شربها!