من المواهب ما لا يتوافر لدي الكثيرين : وهي الرؤية المتكاملة للتغيير ، بمعني التصور البناء علي أرضية الواقع، موهبة نادرة وقائمة علي من يجمع بين الضدين المترادفين: الخيال مع الواقعية، قلما يجتمعان في آن واحد. لأننا قوم ننسي بعد حين، لذا يجدر بكل من شارك في الاحداث الكبري ان يكتب شهادته ولا يكتمها ويتناساها أو يهمل في تسجيلها. ولولا ميول البعض منا للعودة الي جذور وتأصيل الامور لدي البحث او التحليل، لفلتت منا وقائع ولسقط من ذاكرة التاريخ وفلتت بعض العبر والدروس تجاوزتنا تجارب يستفاد منها الكثير... ولدي البحث في أصول وجذور قانون الصحافة هذا الذي رزئنا به وعشنا في كنفه هذا العمر، فإذا بنا نكتشف عجبا، ونعرف أن للصحافة أعد مشروع قانون لائق وأعد منذ أكثر من ثلاثين عاما، لو طبق لكان للصحافة في مصر شأن آخر ... كان منصور حسن في الدائرة الصغيرة المقربة جدا من الرئيس السادات الذي اختاره عام 1978 وزيرا يحمل ثلاث حقائب وزارية دفعة واحدة : الاعلام والثقافة وشؤون رئاسة الجمهورية.. في عام 1980 فوضه السادات بأن يعد قانونا جديدا للصحافة بعد ما تم حل الاتحاد الاشتراكي الذي كان يملك الصحف المصرية منذ تأميمها عام 1960 ... دعا منصور حسن لجنة من رؤساء مجالس ادارات وتحرير الصحف ومعهم ممثلون عن صحف اليسار أو المعارضة، للتعرف علي آراء الجميع وبعدها قام بوضع صياغة القانون الجديد، والذي يطلع عليه اليوم يجده يكاد يصلح بحذافيره للتطبيق في هذه الآونة.. لكن الذي حدث هو ان عند عرض مشروع القانون علي اللجنة البرلمانية المختصة واطلع عليه قيادات الصحافة في ذلك الحين اعترضوا بشدة وتكتلوا ضده وأقنعوا السادات الذي لم يكن معارضا له، بأنه قانون مستوحي من الفكر الشيوعي ويعرقل رسالة الصحافة واهدافها ، فتم تفريغ القانون من مضمونه الاساسي ... هذه الصيغة المرفوضة التي قدمها منصور حسن عام 1980 تبدأ بالانتخاب من القاعدة أي الجمعية العمومية التي تشمل جموع الصحفيين العاملين في الصحيفة، لاختيار أعضاء مجلس الادارة من بينهم وهؤلاء يتولون اختيار رئيس المجلس من بينهم، ثم يرشحون رئيس التحرير الجديد ... الا أن الامر انتهي بإفراغ القانون من مضمونه الأساسي وهو الانتخاب واخذ باستمرار نظام التعيين . عند ذلك الحد كان لزاما ايجاد الجهة التي ترث ملكية الصحف من الاتحاد الاشتراكي المنحل وكذلك عقاراته، ولاحظوا هنا كيف أدت هذه المرحلة الي استنباط ظهور ما عرف بمجلس الشوري وكان سبب خروجه الي الوجود ! يقول منصور حسن أن الاقتراحات العديدة التي قدمت في تلك المرحلة عمن تؤول اليه ملكية الصحف دارت حول ايجاد صفة او كيان ما ، بعنوان ذي قيمة وبلا مضمون ، كأن يكون هيئة او مجلسا بدون اختصاصات تقريبا، أو يفضل ان يكون له وقع صدي تشريعي وبلا سلطات، أقرب الي " مكلمة " مشروعة تتجمع في مكان.. من هنا اتفق الرأي علي ايجاد مجلس شوري والفكرة راقت السادات وهكذا خرج للحياة هذا المجلس لتلحق به ملكية الصحف المؤممة التي كانت تابعة للاتحاد الاشتراكي الذي انحل. منصور حسن هذا الذي قدم قانونا للصحافة يقوم علي الانتخاب لا التعيين ، أنشأ ذلك الحين هذا المجلس الاعلي للثقافة الذي نعرفه بهدف أن يدير المثقفون شؤونهم الثقافية بأنفسهم بدون الموظفين، كان يمهد لالغاء وزارة الثقافة . في تلك المرحلة تولي تشكيل اتحاد الاذاعة والتليفزيون علي نمط مجلس أمناء »بي بي سي« البريطانية، شخصيات عامة متفتحة بقدر ما هي يقظة تحرس وتحرص علي مقومات المجتمع ومعها عدد من الخبرات الفنية المتخصصة.. وقام بذلك أيضا تمهيدا لالغاء وزارة الاعلام ، الا ان ما حدث كان خارج الحسبان ففي تلك المرحلة من عام 1981 تمت تلك الاعتقالات بالجملة شملت 1500 شخصية سياسية دفعة واحدة ... كان منصور حسن معارضا تماما لهذه السياسة بل الوزير الوحيد الذي عارضها داخل مجلس الوزراء ، فقلة قليلة جدا كانت علي استعداد في أن تتقدم بما يخالف رأي السادات في تلك المرحلة بالذات .. عند هذا الحد حدث أمر بالغ الدلالة وجاء أفصح ما يكون عما حدث بين السادات والمقرب منه جدا منصور .. كان السادات يرأس الوزارة ذلك الحين فقام بتعديل وزاري لم يخرج فيه غير وزير واحد فقط هو منصور حسن وأدخل مكانه وزيرين هما عبد الحميد رضوان وصفوت الشريف .. ولم يحدث ان تفوه منصور حسن بكلمة واحدة عن اسباب اخراجه بتعديل وزاري لم يتناول غيره بل صحب أسرته وسافر للخارج، ويشاء القدر أن تحدث واقعة الاغتيال المشهود بعد ثمانية عشر يوما فقط من ذلك التعديل الوزاري. ننتقل للوقت الراهن والتساؤل عن ماهية الصيغة الملائمة للانتقال بالمؤسسات الصحفية لتصبح قومية حقا وتتلاءم مع نظام ديموقراطي سليم .. فاذا كان طريق الانتخاب هو الطريق المشترك الاعظم لاختيار القيادات في النظم الديموقراطية، اذن تبقي فقط الجزئية التي بحاجة الي تصور أعم وأشمل وهي مآل الملكية .. الوزير منصور حسن يري في نجاح الصحف الخاصة وثباتها في السوق في الأعوام الاخيرة مفتاحا أمام الصحف القومية لطرح بعض أسهمها في البورصة فيما لو شاءت، علي أن يحدد نصيب حصة الفرد في الملكية، وعلي ان تبقي أغلبية الأسهم في حوزة الصحفيين العاملين.. عموما هذه امور يسند بحث تفاصيلها ليدرسها الخبراء الماليون ليختار منها الوضع الأمثل الذي يحافظ من جهة علي استقلالية الصحف وانعدام تبعيتها، مع تحقيقها للكسب الاقتصادي.