أول ما أستفتح به مقال هذا الأسبوع هو التحية لكل من تابع وراسلنا، وبدأ في فتح قلبه وطرح أزمته، والتحية خصوصا إلي مواطن مصري كريم هو عبدالعزيز محمد حلاوة منصور من قرية العمار الكبري، من مركز طوخ، بمحافظة القليوبية، حيث إنني أقول له: رسالتك وكل رسالة تصل إلينا موضع تقدير وعناية، وسوف أبدأ من الأسبوع القادم بإذن الله تعالي في التعليق علي رسالتك وعلي رسائل القراء الكرام، لأشرع فيما عزمت عليه، من جعل هذه اليوميات قناة مفتوحة مع أزمة الإنسان المصري وهمومه، تغوص في أعماق الهم الكامن في قلبه، وتحمل عن كاهله، وتخفف عنه، وتعيد ربطه بوطنه، وتجعل الهم الكبير الذي يقع علي شخص واحد موزعا علي كل من يحيطون به، ويشاركونه همومه، ويسمعون منه، ويأخذون بيده، فإذا بالهم العظيم المؤرق المتعب قد تصاغر وصار محتملا إلي أن يزول. وقبل الشروع في تناول مشكلات معينة ومحددة من رسائل القراء الكرام، والتعليق عليها بالنصيحة والاقتراح والتحليل، فإني أحب أن أوضح فكرة معينة، وهي في نظري من أهم خصائص شخصية الإنسان المصري، وهي إحدي الأدوات والآليات والمسالك التي جعلت مصر وأهلها في ارتباط وتماسك وتلاحم، وجعلت هذا الشعب العظيم ركيزة صلبة متماسكة، تتراكم حوله شعوب المنطقة، وهي تنظر إلي مصر دائما علي أنها مصدر العطاء، ومنبع الخير، وينبوع الإلهام الفكري والأدبي. ظلت مصر عبر تاريخها منطقة مركزية، ينزل في رحابها أبناء الشعوب المختلفة، من العمق الإفريقي، من الوافدين من المغرب العربي، أو القرن الإفريقي، أو السودان، أو أقاليم التكرور الواسعة، التي تغطي غرب السودان وتشاد والنيجر ومالي إلي نيجيريا والسنغال، إلي غير ذلك من المناطق الشاسعة في العمق الإفريقي، حيث ظل أبناء تلك الشعوب يعبرون علي أرض مصر من خلال طريق الحج القديم، فيما قبل عصر الطيران قبل نحو قرن من الزمان، حيث تعبر القوافل علي ذلك المسار، حتي تنزل في مدينة قوص، بمحافظة قنا، والتي كانت قاعدة الصعيد وعاصمته، ثم تعبر تلك الوفود والقبائل من خلال الصحراء الشرقية إلي البحر الأحمر ومنه إلي الحرمين الشريفين، أو أن يصعدوا مع النيل إلي القاهرة، ليرافقوا رحلة المحمل المصري الذي يحمل كسوة الكعبة المشرفة إلي مكةالمكرمة، هدية من مصر إلي الحرم الشريف، فكان الإنسان المصري يشهد بعينيه الغرباء والوافدين، الذين يعيشون أياما أو شهورا في رحاب مصر، يتقلبون في خيرها، ويبذل لهم الإنسان المصري كرمه وعطاءه، وسعة خاطره، ويفتح لهم قلبه، ويقوم بواجب ضيافتهم، ويطلع من خلالهم علي الدنيا، ويحفر في قلوبهم منزلة سامية لمصر وشعبها المضياف الكريم. وكان لهذا أثر كبير في شخصية الإنسان المصري، حيث يخرج من ضيق نفسه إلي آفاق واسعة، ويدرك أن بلده بلد خير ونماء وكرم وريادة، فإذا انفض الضيوف الغرباء بقي هو يتعامل بنفس الأريحية والسعة والكرم مع الجميع في وطنه. وطريق الحج القديم الذي يخترق العمق الإفريقي ويعبر علي دول كثيرة، ويصب في مصر، مرورا بها، بغرض النزول فيها، أو اجتازها إلي الحرمين، كان أيضا طريقا من طرق التجارة العالمية، كطريق الحرير الذي كان يعبر من عمق آسيا إلي أوربا، مرورا بالدول والممالك الإسلامية، فتنشط به حركة التجارة وخدماتها في مائة وست وثمانين مدينة كبري يعبر عليها ذلك الطريق، ولكل ذلك أثار اجتماعية ونفسية عميقة جدا في شخصية الإنسان، وقد كتب الأستاذ أشرف أبو اليزيد كتابا عن طريق الحرير، كما قامت مكتبة الإسكندرية بمشروع كبير لإحياء طريق الحج القديم. وقد أضيف عامل آخر، ساعد في تثبيت تلك الخاصية وتلك القيم والمعاني في شخصية الإنسان المصري، ألا وهو الأزهر الشريف، حيث كان يأوي إليه الألوف من طلاب العلم، من المبعوثين والوافدين والمجاورين، من الهنود، وبلاد الملايو، والشوام، والأكراد، والأتراك، والعراقيين، واليمنيين، والأفارقة، وغيرهم، فإذا بالإنسان المصري قد اعتاد أن يري علي أرض وطنه أجناسا وأعراقا كثيرة، جاءت لوطنه العظيم، تستمد منه العلم والكرم والعطاء، مما يترك في نفس الإنسان المصري ثقةً في وطنه، إدراكًا لقيمته، ومما يساعده علي تشغيل مرافق هذا الوطن، واستخراج خيراته، ليقتدر بها علي إكرام ضيوفه، والقيام بحقهم، مما يجعل الإنسان المصري يجد العيش الكريم لنفسه، ويجد ما يفيض به علي الوافدين إليه، وكل ذلك يخرج بالإنسان المصري من الكآبة والإحباط واليأس والهوان والضعف والحزن، الذي قد يدفعه للإدمان، أو الانتحار، أو الكفر بالوطن المصري العظيم وشعبه العريق الكريم. والشاهد أن كل تلك العوامل تركت بصمة وآثارا عميقة في نفسية الإنسان المصري، ساعدت في تثبيت منظومة قيمه، ومعالم شخصيته، وجعلته إنسانا كريما، قويا، صانعا للعمران، رفيقا بالإنسان، قادرا علي اختراق همومه وتجاوزها، يقف هو في المواصلات العامة لتجلس المرأة، أو كبير السن، أو صاحب الحاجة، يأخذ علي عاتقه أن يرشدك إلي العنوان الذي تبحث عنه، ولا يتركك حتي يطمئن إلي أنك وجدت مقصودك، يكرم الغريب ويساعده، يتعفف عن الفحش والقبح، لا ينهمك في السلب والنهب طمعا وشرها، مثابر علي فلاحة الأرض، أو إتقان الحرفة، أو تعظيم قدر الأستاذ الذي يعلمه، لا يتملكه ضيق الخلق فيقتل أو يسب، يعظم حرمات الله ولا ينتهكها، يدرك مثلا قيمة شهر رمضان فلا يكسر حاجز الصوم، ولا يعتدي علي حرمة نهاره وليله بالآثام والفواحش، تتضافر فيه بيوت المسلمين والمسيحيين في الفرح والحزن، وصدور بعضهم تجاه بعض صافية، وكل هذه مظاهر اجتماعية ربما كانت عابرة، لكنها تدل علي عمق ما استقر في وجدانه من المعاني والقناعات والقيم، التي اختار بسببها منظومة تصرفات وسلوكيات تجعل الصعب محتملا، والمعيشة ميسورة. أيها المصري الأصيل، هذا أنت، وهذا تاريخك القريب المشرف، الذي رفع لك بين الشعوب القريبة والبعيدة سمعة كريمة وموقرة، ولنا عودة ثم عودة إلي الحفر والتنقيب عن تلك الأعماق في باطنك الكريم، ولك تحياتي، وسلام علي الصادقين.