من المطار إلي الأوبرا، بعد رمزي يؤكد الصلات الثقافية العريقة بين الشعبين الروسي والمصري. أذكر أنني في أول زيارة إلي الاتحاد السوفيتي ضمن فوج سياحي نظمته نقابة الصحفيين، عندما طالعت الوجوه لم أشعر بغربة، أعرف اعماق الروس من أدبائهم العظام، دشويفسكي، شيخوف، تولستوي، جوجول، تورجنيف. كان الإمام محمد عبده يتبادل الرسائل مع تولستوي، وفي بداية القرن ظهرت ترجمة لأفكاره عن كتابه «الآفات الاجتماعية». قام بها محمد رضا، وفي العشرينيات ترجم محمد السباعي مائة قصة قصيرة لتشيخوف ولكن الصلات الثقافية التي جسدها عرض الأوبرا الواقع، الذكي، باختيار فقرات دالة وفيلم تسجيلي موفق في لقطاته، تقف وراء هذا الجهد الفنانة إيناس عبدالدايم التي حولت الأوبرا إلي منطقة ضوء. وكان أداء الأوركسترا رائعا بقيادة اثنين هما هشام جبر وناير ناجي، يعتبرا امتدادا لقادة الاوركسترا العظام في مصر. غير أن الصلات الثقافية تحفل بجوانب مجهولة لم تعرف إلا علي نطاق المتخصصين، وحديثي قاصر علي العصر الحديث الذي يبدأ بمحمد علي الذي أرسل إلي روسيا بعثات للتعليم. غير أن أهم شخصية ذهبت من مصر إلي روسيا الشيخ محمد عياد الطنطاوي. الأزهري الصميم، وصل الشيخ الطنطاوي إلي بطرسبورج عام 1847 ليشغل كرسي استاذية اللغة العربية الذي تأسس عام 1819 وشغله فرنسي وبولندي، والثالث هو شيخنا الذي ظل هناك حتي توفي عام 1861. أي أنه أمضي أربعة عشر عاما يدرس الثقافة العربية، وأول من عرف به وبدوره العلامة أحمد تيمور باشا الذي كتب عن جهوده وشخصه مقالا في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق. غير أن أهم مرجع شامل كتاب المستعرب الروسي كراتشوفسكي وقد صدر عام 1929 في موسكو، وترجم إلي العربية وصدر عام 1964 عن مجلس الفنون والآداب، ترجمة عن الروسية كلثوم عودة. ولد الشيخ في محلة مرحوم بمحافظة الغربية، درس في كتاب القرية، وكانت طنطا مشهورة بعلوم القرآن، لذلك صار يقال.. ما قرآن إلا احمدي ولا علم إلا أزهري. في الثالثة عشر جاء إلي القاهرة والتحق بالأزهر. كان أهم أساتذته الشيخ علي الباجوري الذي أصبح شيخا للأزهر، والشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي. وارتبطا بصداقة عميقة، وكتب الطنطاوي مؤلفا عنوانه «وصف روسيا»، علي غرار كتاب الطهطاوي «تخليص الإبريز»، الذي وصف فيه الحياة في فرنسا، لم يكمل الطنطاوي تعليمه الأزهري لظروف أسرية، عاد إلي طنطا ليمارس التدريس، إلا أن أحد معلميه مصطفي القناوي رشحه للتدريس في الأزهر، وعمل أيضا مصححا للمطابع التي بدأت تنتشر في مصر، ومن أشهر المصححين الشيخ محمد قطة العدوي الذي يرجع إليه الفضل في مراجعة وطبع أوسع حركة لنشر التراث العربي عرفتها الثقافة العربية حتي الان. اشتهر الطنطاوي بمعرفته العميقة الأدب، وخافظ مستعربين أجانب خاصة الفرنسي فرنيل الذي كان ملما بالأدب العربي خاصة كما أثر الطنطاوي في فرنيل وكلاهما يعترف بتأثير الآخر، وتأثر بالطنطاوي عدد من أبرز المستعربين منهم إدوارد لين، وبيرون محقق كتاب الأغاني وغيرهما. حقق الطنطاوي شهرة واحتراما بين الأوروبيين ومنهما روسيان هما موخين وفرين وهما اللذان كانا سببا في سفر الشيخ إلي موسكو، ثم إلي بطرسبورج، وافق محمد علي باشا علي سفره وأوصاه بتعلم الروسية وإتقانها، وغادر القاهرة يوم السبت الموافق 24 محرم عام 1256 هجري، واستقر في جامعة بطرسبورج يدرس العربية وآدابها وكان له تأثير كبير في الاجيال التالية من المستعربين الروس وهذا ما يسجله كراتشكوفسكي في كتابه البديع عنه، في زيارتي الأولي لروسيا قمت بزيارتين لا يدرجان عادة في البرامج السياحية، أولا إلي بيت دستويفسكي الذي توفي فيه وأمضيت فيه وقتا طويلا. وأديت التحية إلي روائي عظيم أحبه. وإلي مقبرة التتر التي يرقد فيها الشيخ الطنطاوي، أحد أعمدة الصلات الثقافية بين مصر وروسيا ولكم أتمني احتفاء مصربه وبالروس العظام الذين خدموا ثقافتنا ولهذا حديث آخر.