يعرف جيدا عن الرئيس باراك أوباما حرصه علي عدم اللجوء لاستخدام القوة العسكرية كحل للأزمات.. ظل هذا أحد المحاور الثابتة في رئاسته منذ حملته الانتخابية الأولي حتي خطابه الشامل حول السياسة الخارجية الذي ألقاه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية «ويست بوينت» مؤخرا. ومع ذلك فان التناقض الذي بدا علي السياسة الخارجية في ادارة اوباما وأسلوب العمليات الذي انتهجه جعل استخدام الأداة العسكرية امرا لا يمكن تجنبه إلي حد كبير. وبسبب العجز عن فهم ان المسافة بين الحرب والسلام ليست فراغا – بل مرصعة بمنافسات سياسية واقتصادية وأمنية تتطلب تركيزا مستمرا – فان مجازفات السياسة الخارجية الأمريكية اصبحت تركز علي استخدام القوة العسكرية بسبب ضعف الطرف الآخر غالبا. هكذا فسرت الدكتورة نادية شادلو المتخصصة في السياسات الدفاعية والخارجية سياسات أوباما. وعرضت شادلوف وهي أيضا عضو مجلس السياسات الدفاعية بمؤسسة سميث ريتشاردسون الفرص الضائعة في ادارة أوباما لتجنب استخدام القوة العسكرية. وقالت في موقع «وور اون زي روكس» المتخصص في تحليل السياسات الأمريكية انه بالرغم من تحذيرات الرئيس في «ويست بوينت» بأنه لا يجب ان «نهرع إلي المغامرات العسكرية بدون التفكير في العواقب» تدخلت الولاياتالمتحدة بالفعل في ليبيا وذلك بعد سنوات اتضحت خلالها الأخطاء والدروس المستفادة من العراق. وبعد عامين من العملية العسكرية بدأت امريكا دراسة «احتمال» تأسيس بعثة تدريب عسكرية لقوات الأمن الليبية الناشئة. في مقابلة مع نيويورك تايمز أعرب أوباما عن أسفه بشأن فشل أمريكا في دراسة متطلبات الاستقرار.. وتبقي حالة ليبيا نموذجا للاعتماد علي استخدام القوة العسكرية لمرة واحدة فقط وعلي نطاق ضيق: وهو ما يفسره استخدام منحا واحدا فقط من القوة العسكرية كأداة تكتيكية لاستهداف قوات العدو عن بعد. العقلية السياسية التي تهيمن علي صناعة قرار الأمن القومي تضع في أولوياتها تغليب الوسائل العسكرية علي الغايات السياسية.. ولأن استخدام القوة العسكرية غير مرتبط بخطط عملياتية لتقديم دعم سياسي لاحق تفرغ الولاياتالمتحدة المسافة بين الحرب والسلام من أي محتوي ويكون في هذه المسافة معارك تتضمن تحليل وتفسير المعلومات وعمليات لي أذرع ووحشية جماعية يفضل أعداء أمريكا اللجوء اليها. في العراق يعكس قرار انسحاب جميع القوات الأمريكية وجهة نظر ضيقة لفائدة القوة العسكرية. فكان ينظر إلي القوات العسكرية باعتبارها تنتمي إلي مرحلة منفصلة من الحرب ومن ثم فهي أقل صلة بالجهود السياسية لتعزيز المكاسب والابقاء علي تواجد سياسي سلس بين المجتمعات العراقية. فاعتقاد ادارة أوباما بان الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية سوف يمثل «نهاية الحرب» هبط بهذا الصراع إلي مجرد نزاع عسكري – وليس منافسة سياسية قوية كما كانت في الحقيقة. في سوريا عندما وصف بشار الأسد في عام 2006خادم الحرمين الملك عبد الله بانه «نصف رجل» لاحظ سامانثا رافيتش نائب مستشار الأمن القومي السابق ان الرياض سعت للعمل مع امريكا وآخرين لدراسة تغيير النظام في سوريا. كان الباب مفتوحا لضم الخبرة الأمريكية مع الموارد السعودية لتمكين جماعات معارضة مناهضة للأسد وبالتالي لم تكن هذه الصفقة تستهدف فقط النظام السوري نفسه بل ايضا القوة الاقليمية الايرانية عن طريق حرب بالوكالة في دمشق. ظل هذا التحرك بطيئا في ادارة بوش وأبطأ في ادارة أوباما إلي ان وصلت امريكا لما تريد دون ان تحرك ساكنا مع اندلاع الحرب الأهلية في 2011. في ليبيا فشلت الولاياتالمتحدة في التدخل سياسيا عقب استخدام القوة العسكرية. وفي سوريا تجنبت واشنطن المواجهة السياسية ورأت خياراتها تتضاءل إلي عمليات عسكرية تكتيكية بدون حس واضح لكيفية ربط هذه العمليات بنتائج استراتيجية. بعيدا عن الشرق الأوسط وفي وسط أوروبا الشرقية تراجعت أمريكا منذ عدة سنوات دبلوماسيا وسياسيا – المسافة بين الحرب والسلام. وراقبت امريكا قصة ناجحة للعلاقات مع اوروبا حيث يتغلب التعاون بينهما علي المنافسة. فكان ينظر إلي تمدد أوروبا التدريجي نحو الشرق باعتباره مسيرة تاريخية بعيدا عن كونه زخما سياسيا بين المتنافسين وخاصة روسيا. لكن عندما احتدت شدة التنافس،الذي بدأت اولا بجورجيا ثم أرمينيا وأخيرا أوكرانيا تفاجأت امريكا وادركت تأخرها في التدخل.. روسيا من جانبها لم تتخل ابدا عن المنافسة.. لكن اعترافها بضعفها النسبي امام امريكا وحلفائها يعني ببساطة ان نطاق التنافس سوف يكون سياسيا اكثر منه عسكريا.. وعلي الجانب الآخر فسرت امريكا نهاية سباق التسلح وتعارض الخطط العسكرية بنهاية المنافسة.. الا انها فقط دخلت في المسافة بين الحرب والسلام. ويلقي التدخل الروسي في أوكرانيا الضوء علي ما يعرفه الكثير من المراقبين: ان روسيا نادرا ما تفصل المنحي السياسي عن الأمني.. المأساة هي أن عجز الولاياتالمتحدة في تطوير العقلية والآلية التي تتنافس بها في «المسافة بين الحرب والسلم» تعني أنها تقلص خياراتها لتلجأ في النهاية إلي الأداة العسكرية.. فالسلام لن يستمر في دولة تسير بالقصور الذاتي.. فلابد أن يكون التدخل بنشاط وثبات في المنافسات السياسية هو السمة الثابتة للولايات المتحدة.