إذا فُتحت مقابرهم فلن تُغلق سريعًا.. مثل اشتُهر عنا، وهو صادق إلي حدٍّ بعيد.. كان مشهدًا تذهبُ النفس في إثره حسرات، غير أن نفسي بدت ساكنة، مطمئنة؛ واثقة من فضل الله وجوده علي هذه الروح التي لاقت ربها آمنة صابرة.. قادتني قدماي خلف نعشه المحمول دون كبير وعي، بكي كل عضو في جسدي إلاّ عيناي، جفَّ الدمع في مجريهما، هكذا تعودتُ منذ الصغر، ولم تعد كثرة الحزن تُعلّم البكاء، كما يقولون، بل أصبحت كثرة الحزن في عائلتنا تقويّ القلب.. حيث تعلّمت أنّ بكاء الرجال عيب وتشبّه بالنساء وهو ما لا يليق بأبناء عائلة كبيرة كعائلتنا.. ورغم هذه الدروس ما كنت أشك لحظة أن أعمامي يبكون دمًا في خلواتهم، بعيدًا عن أعين الرقباء، ولكني اكتشفت وهم ظني بعد أن رقد أبي شهرًا في المستشفي إثر وفاة أخيه.. فقط لأنه لم يبك، إذ يبدو أن البكاء دواء! ! ما أصعب الطريق إلي الحياة وما أسهل الطريق إلي الموت.. موكب الحاج عبدالفتاح يسير بسرعة البرق، أو هكذا شعرتُ، ألا يعلم هؤلاء الرجال أنهم يحملون جدًّا عزيزًا وقلبًا كبيرًا، رجلًا من أهل الله، تعلّق قلبه بمساجد الأولياء فكان رسول العائلة والبلد جميعًا إليها، حتي إذا ما خانه الجسد وأقعده المرض وأضناه الشوق إلي القباب الخضراء العامرة في أيام مولدها بكي متذكرًا أيامه الجميلة حين كان يقود كتيبة المحبين إلي الرحاب الطاهرة، هذا الشهر إلي مولانا الإمام الحسين، وذاك الشهر إلي أم العواجز، وهذا إلي دسوق، حيث مرقد حبيبه سيدي إبراهيم الدسوقي، وبعده إلي طنطا، في دائرة لا تنتهي؛ فمصر عامرة بمساجد الأولياء، وقلوب أهلها مُترعة بحبهم.. خاصة أولئك الذين يرون ما لا يراه الناظرون. مدد يا دسوقي ! كلاب الذاكرة تنبح لتزيد أساه، رغم لياذ الفتي بقوة قلبه وقلاع صبره، فتحتله مشاهد الذكري في دفقات متتالية دون مبالاة بوجعه؛ إذ لا يزال الفتي يذكر غيوم القسمات المليحة في وجه جدّه، حين علته أطياف الهمّ وحلّقت فوقه طيور الحزن.. جذبه من أسفل جلبابه ليرفعه إلي صدره، لكنه تجاهله ولم ينظر إليه، تلاشاه لأول مرة في حياته، سمعه الفتي يُحدّث نفسه: "كيف لا أذهب هذا العام، المحصول "عملها وخلا بيا، مدد يا دسوقي" أنينٌ تحوّل إلي بكاء، ودعاءٌ استحال إلي رجاء.. حتي كان المدد أسرع من الطلب؛ إذ التفت الجدُّ فوجد رجلًا يقفُ علي رأسه يطلب إليه أن يشتري كل العلف الباقي من المحصول وينقده مائتي جنيه دفعة واحدة، هشّ وبشّ، وخاطب نفسه: "كنت أعلم أنه لن يخذلني، أردناه فأرادنا" ثم وافق واستلم المبلغ وأمر حريم العائلة، بثقة المسنود من قوة أعلي، بتجهيز الزوادة للرحلة الميمونة؛ لقد صدقت كلمته التي لازمته طويلًا: «جبر الخواطر علي الله». هبة رجل الغراب ! حظ عاثر قادني إلي مشاهدة هذه الدراما الشائهة، دراما بلا فكرة ولا تمثيل ولا تصوير ولا إخراج، فقط حركات في المكان، ووقت مهدور لملء الشاشة وتزجية فراغ ربات البيوت الكسالي؛ ولكن الأخطر الذي يحاول إثباته هذا المسلسل الذي يبتعد عن الطريق الفني المستقيم ويمشي مُكبا علي وجهه تمامًا كاسمه، رجل الغراب، هو أنه يصور الزنا والخمور والرشوة كأنها مُسلماتٌ بدهية ينغمسُ فيها الشعب المصري، أو علي الأقل فئة رجال الأعمال منه، ولا أعتقد أن هذا صحيح، وإنما هو تشبّه بالدراما التركية التي أكلت دماغهم فحاولوا تقليدها، فخرج لنا هذا النبت الشائه.