عبدالهادى عباس تم الحفرُ وتثبيتُ الأعمدة قبلها بيومين، أكثر من اثني عشر عمودًا في كل اتجاه، تصلُ بين الأعمدة الرأسية أعمدةٌ أخري أفقية مشدودةٌ إلي بعضها البعض بحبالٍ ومتدليةٌ منها ثُريات صغيرةٌ وستائر مُتداخلةٌ مُتشابكة بطول الصُوان الذي امتد لأكثر من مائتي متر بعرض الشارع الرئيسي كله، وهو الأمر الذي أدي إلي دهشة أصحاب المحلات علي الجانبين الذين سُدّت منافذُ أرزاقهم بفعل فاعل، وإن لم يزيدوا كالعادة علي الدهشة وفغر الأفواه لأنهم يعلمون أن من يتجرأ علي هذا الفعل الشاذ لابد مسنودٌ من أهل النجوم والسيوف المتقاطعة، وبالتالي من الأسلم لهم أن يبتعدوا عن المشاكل خاصة في هذا الزمان الأغبر الذي يروح فيه النفر في شربة ميه دون إحم ولا دستور. وجاء اليوم الموعودُ وامتدت الموائدُ والكراسي وتم تعليق المزيد من الثريات والأنوار بطول السرادق، إضافة إلي إغلاقه تمامًا من جانب، حيثُ بقي الآخر مفتوحًا، واصطفَّت في ميمنته كتلٌ ضخمة من العمم الصعيدي لاستقبال السادة زائري "الحنة" السعيدة؛ وفي الجوار قبعت سيارةٌ ضخمة مليئة بجراكن الكيروسين لزوم المولد الكهربائي الذي يُنافس بصوته المزعج الطائرات النفاثة، وإلي غير بعيد من المسرح امتدت طاولة كبيرة حوت كل أنواع المشروبات بدءًا من الكولا إلي ما لا أعلم؛ وفي مقابل هؤلاء أقعي أربعة شباب تُغازل أياديهم بمهارةٍ مُدربة عددًا ضخمًا من النارجيلات لإعدادِ الفحم والمعسل وما لا أعلم من المسكرات. وقبل أذان المغرب بدأت صواريخ الديجيهات، ست سماعات في كل اتجاه، تخترق الآذان بأحدث أغاني التوك توك الزاعقة، التي تجعلك تستغفر الله في سِرِّك لظلمك للفنان شعبان عبدالرحيم شيخ مشايخ الطرق الغنائية الحديثة أمام هؤلاء الحواة ممن لا يُجيدون غير الخبط والرزع الذي ما أن يهدأ لثوانٍ لزوم النقطة حتي يعود سيرته الأولي ممتدًا حتي مطلع الفجر. في المكان نفسه والتوقيت عينه بعدها بثلاثة أيام فقط، بدأت رحلةٌ أخري من تعذيب المواطنين ولكن هذه المرة في صوانٍ للعزاء استمر أيضًا حتي مطلع الفجر! الآن فقط أدركتُ الجُرم الذي ارتكبتُه عندما اخترت شقتي علي شارعٍ واسعٍ.. وعلمتُ مدي حصافة الحكومة عندما خنقت الشعب في هذه الحواري الضيقة.. صحيح لا يفلّ هذا البشر إلاّ هذه الأنظمة !! .. إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ عند الحديث عن الحب، القلب، يحتجب المنطق، العقل؛ وتنداح دائرة الخيالِ لتنسحقَ كلُّ مشكلات الواقع ومآسيهِ وتنزوي إلي حين؛ كل شيء أمام القلب هين، مُضمحل، وبلا قيمة.. تلك حقيقة بدهية نُنكرها خجلًا وهربًا، وأين لنا المهرب؟ كلا لا وزر. وتوافقًا مع بهجة الربيع وتفتّح زهوره جاء سؤال من السهل الممتنع علي صفحة التواصل الاجتماعي أحدث دويًّا صاخبًا إذ تعددت الموافقات والاختلافات، وتشعبت التعريفات من أهل العشق الذين هم أدري بشعابه.. وكان السؤال الذي نتمحل المعاذير للهرب منه، ضنًّا بهذا السرّ الدفين أن يطلع عليه أحد، هو: هل هناك بالفعل ما يُسمَّي بالحب الأول؛ وهل يظل هو الحب الوحيد مهما تعددت التجاربُ؟ ورغم أنني أجبتُ مُستشهدًا ببيت أبي تمام الشهير: نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوي * ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّل. فإن إجابة الحال كانت أصدق من إجابة المقال.. حيث قابلت شابًا مسيحيًّا في الثلاثين من عمره وشمَ ذراعه بقلبٍ كبير، قال: منذ ستة عشر عامًا لم أرها، تركتُ أهلي وبلدي في الصعيد من أجلها، تزوجتْ وتزوجتُ، أنجبتْ وأنجبتُ، ومازلتُ أحبها، رغم أنني أحب زوجتي أيضًا؛ ولكنَّ حبها من نوعٍ آخر، إنه ذلك النوع الذي يلصقُ بالقلوبِ رغم أنفك فلا يُفارقها، وإن أردتَ.. إجابةٌ من الحياةِ أو إجابةٌ هي الحياة. مدرسة الفراعين ! قديمًا في قريتنا لم نكن نملكُ غيرَ مدرسةٍ ابتدائيةٍ وحيدةٍ نتناوبُ عليها علي فترتين، صباحية ومسائية.. المدرسةُ مُتداعية مُتهالكة، فالمبني في الأساس دوار عائلة وليس مبني مدرسة، أما المدرسون فآلهةٌ فرعونيةٌ قديمة، فمنهم من كان يملكُ رأس ثور، ومنهم من كان يملكُ رأس أفعي، ومنهم من كان يملك رأس جَديٍ بقرنين كبيرين، ومنهم أيضًا من كان يُشبه الكاتب المصري القديم بجلسته الشهيرة حين كان يكتبُ للعالم علمه ويُملي فنّه.. هكذا كنتُ أتخيلهم، ولا أحسب الزمان تغير كثيرًا.