بعد انتهاء إحدي جلسات مفاوضات فض الاشتباك الأول «الكيلو 101» التي أعقبت عبور القوات المصرية قناة السويس في حرب أكتوبر 1973، خرج رئيس وفد المفاوضات المصري، وكان رئيسا لأركان الجيش - من خيمته للتفاوض دون أن يسلم علي أي من أعضاء المفاوضات الإسرائيليين أو تصدر عنه كلمة واحدة، وكانت هذه عادته طوال زمن المفاوضات فأسرع وراءه قائد الوفد الإسرائيلي الجنرال «عزرا ويزمان» الذي أصبح رئيسا لإسرائيل فيما بعد، وقال له: «سيادة الجنرال، لقد بحثنا عن صورة لك وأنت تضحك فلم نجد، ألا تضحك أبدا؟!». فنظر إليه القائد المصري ثم تركه ومضي.. وبعدها كتب ويزمان في مذكراته عن المشير الجمسي: «لقد هزني كرجل حكيم للغاية إنه يمثل صورة تختلف عن تلك التي توجد في ملفاتنا، ولقد أخبرته بذلك». بساطة الفلاح وعظمة الجنرال وجهان لعملة واحدة لم يعرف المشير الجمسي غيرهما في حياته الطويلة، فهو ابن أسرة ريفية كبيرة. كان محمد عبدالغني الجمسي قد أكمل تعليمه الثانوي فالتحق بالكلية الحربية وهو لم يكمل السابعة عشرة مع عدد من أبناء جيله الذين أسهموا في تغيير تاريخ مصر، مثل جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، وصلاح وجمال سالم، وخالد محيي الدين.. وغيرهم ممن كونوا فيما بعد تنظيم الضباط الأحرار. ثلاثون عاما 1948 - 1978 دارت خلالها أربع حروب، هي حرب فلسطين 1948 وحرب العدوان الثلاثي 1956 علي مصر وحرب يونيو 1967 ثم حرب أكتوبر 1973، وهي حروب عاصرها الجمسي واشترك فيها عدا الأولي، كانت لمشاركة الجمسي في الحرب العالمية الثانية ضمن القوات المحاربة في الصحراء الغربية، بين قوات الحلفاء بقيادة مونتجمري والمحور بقيادة روميل، بالغ الأثر في تنمية خبرته بسلاح المدرعات وكانت مشاركته درسا مفيدا استوعبه الجمسي واختزنه لأكثر من ثلاثين عاما حين أتيحت له الاستفادة منها في حرب أكتوبر المجيدة. تاريخ الجمسي في العمل العسكري طويل ومسيرته حافلة، فقد تلقي عددا من الدورات التدريبية العسكرية في كثير من دول العالم، قبل أن يعمل ضابطا بالمخابرات الحربية، فمدرسا بمدرسة المخابرات، حيث تخصص في تدريس التاريخ العسكري لإسرائيل، فكان الصراع العربي الإسرائيلي هو المجال الذي برع فيه الجمسي، وقضي فيه عمره كله وارتبطت كل مرحلة فيه بجولة من جولات هذا الصراع منذ حرب 1948 حتي انتصار 1973، وحتي بعد اعتزاله للحياة العسكرية. عقب هزيمة يونيه 1967، أسندت القيادة المصرية للجمسي مهام الإشراف علي تدريب الجيش المصري مع عدد من القيادات المشهود لها بالاستقامة والخبرة العسكرية استعدادا للثأر من الهزيمة النكراء، وكان الجمسي من أكثر قيادات الجيش دراية بالعدو، فساعده ذلك علي الصعود بقوة فتولي هيئة التدريب بالجيش، ثم رئاسة هيئة العمليات، ورئاسة المخابرات الحربية، وهو الموقع الذي شغله عام 1972، ولم يتركه إلا أثناء الحرب لشغل منصب رئيس الأركان. عندما تم تكليفه مع قادة آخرين بإعداد خطة المعركة أخذ الجمسي يستعين بمخزون معرفته، وبدأ في تدوين ملاحظاته عن تحركات الجيش الإسرائيلي، وتوقيتات الحرب المقترحة وكيفية تحقيق المفاجأة وحفاظا علي السرية التامة دون كل هذه المعلومات السرية حسبما ذكرت الروايات في كشكول دراسي، فلم يطلع عليه أو يقرؤه أحد إلا الرئيس المصري أنور السادات والسوري حافظ الأسد خلال اجتماعهما لاتخاذ قرار الحرب! عاش رئيس هيئة العمليات المسئول الأول عن التحركات الميدانية للمقاتلين ساعات عصيبة حتي حقق الانتصار، واختار السادات الفريق الجمسي ليتولي مسئولية التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات الكيلو 101، قرر ألا يبدأ بالتحية العسكرية للجنرال «ياريف» رئيس الوفد الإسرائيلي، وألا يصافحه، وهذا ما حدث فعلا. وبدا الرجل مفاوضا صلبا مثلما كان عسكريا صلبا، حتي جاءت أصعب لحظات عاشها الفريق في حياته كلها، لحظات دفعته - لأول مرة في حياته العسكرية - لأن يبكي! كان ذلك في يناير 1974 عندما جلس أمامه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليخبره بموافقة الرئيس «السادات علي انسحاب القوات المصرية من الضفة الشرقية لقناة السويس. بعد الحرب مباشرة رقي الفريق الجمسي إلي رتبة الفريق أول مع توليه منصب وزير الحربية عام 1974 وقائد عام للجبهات العربية الثلاث عام 1975، وكان قرار السادات بألا يخرج كبار قادة حرب أكتوبر من الخدمة العسكرية طيلة حياتهم تكريما لهم إلي أن خرج الجمسي من وزارة الحربية عام 1978، بناء علي طلبه، غير أنه رقي عام 1979 إلي رتبة المشير. خرج المشير الجمسي من الحياة العسكرية، لكنه ظل محتفظا بنفس التقاليد الصارمة من الالتزام والانضباط والتزام الصمت بعيدا عن الأضواء، وحين بدأت موجة الكتابة عن حرب أكتوبر تنتشر في مختلف أنحاء العالم، كانت المعلومات تتكشف تدريجيا عن دور الرجل في الحرب، وتعددت معها الألقاب التي أطلقت عليه، فجرت المقارنة بينه وبين الجنرال الألماني الأشهر روميل، فسمي «ثعلب الصحراء المصري»، نظرا لبراعته في قيادة معارك الصحراء، ولقب بأستاذ المدرعات، أما أحب الألقاب إلي قلبه فكان لقب «مهندس حرب أكتوبر»، نظرا لاعتزازه بالحدث وفخره به. رحل المشير في صمت بعد معاناة مع المرض، وصعدت روحه إلي ربه في 2003 عن عمر ناهز 82 عاما، عاش خلالها حياة حافلة، بعد أن رفع العلم المصري علي حدود مصر الشرقية بمدينة رفح بشمال سيناء.. وشرم الشيخ بجنوب سيناء.. واستكمال الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في الخامس والعشرين من شهر أبريل عام 1982 . نال الجمسي شهادات من أعدائه مثلما نال تقدير كل من عملوا معه فقد قال عيزرا وايزمان رئيس وفد المفاوضات الإسرائيلي في الكيلو 101 ورئيس إسرائيل فيما بعد عنه «لقد هزني كرجل حكيم للغاية، إنه يمثل صورة تختلف عن تلك التي توجد في ملفاتنا، ولقد أخبرته بذلك، إنه رجل مثقف، وموهوب، وهو مصري يعتز بمصريته كثيراً»، فيما قالت جولدا مائير رئيس الوزراء الإسرائيلية إبان حرب أكتوبر «إنه الجنرال النحيف المخيف» وقال عنه الرئيس أنور السادات: «إنه رجل عسكري يصلح لمائة عام من الخدمة العسكرية».