فضفضة على الورق ** عندما تختلط مشاعر الحزن الشديد بمشاعر الفرحة الغامرة، لا يستطيع المرء أن يحدد حقيقة حالته النفسية.. فالتأرجح بين الفرحة والحزن يخلق عند البشر نوعًا من عدم القدرة على استيعاب الحالة المزاجية على وجه الدقة.. ففى يوم واحد تباينت المشاعر، وانتقلت من النقيض إلى النقيض، ما بين صباح اليوم ومسائه.. فى الصباح.. صدمتنا الأنباء بحادث مأساوى مؤلم اختطف أطفالاً فى عمر الزهور، ليس طفلاً أو اثنين أو ثلاثة، وإنما 51 طفلاً لقوا مصرعهم فى حادث أو بمعنى أدق كارثة عند مزلقان منفلوط بأسيوط، وكأنه قد كُتب علينا بين الحين والآخر أن نتجرع طعم الألم ومرارة الحزن. لم يكونوا أطفالاً عاديين، بل نواة لدعاة إسلاميين فى المستقبل، فهم تلاميذ فى أحد المعاهد الأزهرية، بعضهم أكمل حفظ ما لا يقل عن خمسة عشر جزءًا من القرآن الكريم، والبعض الآخر أخوة أو أخوات من أسرة واحدة. وفى المساء ويا لها من قمة فى التناقض وانقلاب المشاعر كان الملايين من المصريين فى حالة فرحة عارمة لنجاح النادى الأهلى فى تحقيق المستحيل خارج الحدود بالفوز بكأس أفريقيا من بين أنياب فريق الترجى التونسى فى عقر داره ووسط جماهيره الغفيرة. الصورة "البانورامية" لليوم كله كانت مهتزة ومضطربة عند الكثيرين.. هل يطلقون العنان لأنفسهم للتعبير عن الفرحة الشديدة بالحدث الرياضى الكبير والإنجاز الرائع للأهلى على المستوى الأفريقى، وهو ما يعنى عودته للعب فى كأس العالم للأندية فى اليابان ليكون الفريق الوحيد فى العالم الذى يشارك فى هذا المونديال للمرة الرابعة، وأيضًا تحليقه فى "السما السابعة" أفريقيًا، فتلك هى المرة السابعة التى يحقق فيها الكأس الأفريقية الغالية، فيما يشبه المعجزة الحقيقية بالقياس إلى الظروف بالغة الصعوبة التى لعب فيها الأهلى هذه البطولة، والتى يعلمها الجميع.. أم يكتمون الفرحة و"يغتالونها" حدادًا على أرواح الأطفال الصغار الذين أبكوا مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها؟ أم ربما كان الأفضل أن تمتزج الفرحة بالحزن، تخفيفًا من الله للإنسان، لتستمر الحياة بحلوها ومرها.. ساعات عصيبة عشناها جميعًا صباح يوم السبت الماضى، كما لو كنا نعيش كابوسًا رهيبًا، ولكن مشيئة الله أرادت ألا ينتهى يومنا هذا إلا بفرحة وابتسامة وسط هذه الأحزان.. فألف رحمة ونور على شهداء قطار أسيوط الأبرياء.. وألف مليون مبروك للنادى الأهلى ولجماهيره على إنجازه المعجز. .................................. ** من كل الوجوه.. لعبًا ونتيجة ولياقة بدنية وذهنية وفنية.. كان الأهلى هو الأفضل إذ لعب واحدة من أفضل مبارياته خارج أرضه، بل هى الأفضل على الإطلاق.. صحح حسام البدرى أخطاء مباراة الذهاب فى القاهرة سواء فى التشكيل أو التغييرات، وأدارها بامتياز وباحترافية نادرة، وصنع تاريخًا لنفسه كأحد كبار المدربين المصريين، وهو تاريخ يؤهله لقيادة منتخب مصر فى وقت قريب. تفوق اللاعبون على أنفسهم فحققوا فوزًا تاريخيًا، ومن الصعب الإشادة بأحدهم أكثر من الآخر إذ كانوا جميعًا رجالاً على مستوى المسئولية، ونجحوا فى إعادة البسمة إلى جماهير مصر العظيمة، وسط أمواج الأحزان الكثيرة التى مرت بها البلاد فى هذا العام الحزين. عاد أبطال الأهلى من تونس وهم يحملون كأس أفريقيا أو بمعنى أوقع كأس كل الشهداء.. شهداء مذبحة بورسعيد، شهداء كارثة أسيوط، كل الشهداء فى كل مكان على أرض مصر، فنعم الهدية ونعم الإنجاز فى عام.. بدايته فى فبراير 72 شهيدًا فى استاد بورسعيد.. ونهايته فى نوفمبر 51 طفلاً بريئًا.. وبعيدًا عن الأحزان.. ها نحن فى انتظار صولات وجولات أخرى لنجوم الأهلى وجهازه الفنى المحترم وإدارته الواعية، فى كأس العالم للأندية باليابان فى شهر ديسمبر المقبل، ليكون الختام الأخير لعام 2012 خيرًا على الشعب المصرى الذى تحمل الكثير والكثير من الأحزان.